التوافق التركي – الإيراني، ليس فقط في العداء للعرب، وإنما كذلك في المعتقد المنحرف.
احتفاء حكومة العدالة والتنمية، والتي ترتبط روحيا بجماعة الإخوان المسلمين، أبرز تنظيم سياسي في الإسلام السني الحديث، بالحاج بكتاش، فارسي الأصل، والمعروف بانتمائه العقدي إلى المذهب الشيعي الإثنى عشري، يعد دليلا صريحا على أكذوبة قيادة تركيا للعالم الإسلامي السني، في مواجهة التطلعات الشيعية لإيران بمنطقة الشرق الأوسط. إضافة إلى التوافق التركي – الإيراني، ليس فقط في العداء للعرب، وإنما كذلك في المعتقد المنحرف.
ولأن تاريخ الحاج بكتاش والطريقة البكتاشية هو تاريخ معقد، أسبق حتى في تشكله الزمني على تأسيس الدولة العثمانية نفسها. ولأن البكتاشية ظلت ملاصقة للعثمانيين حتى الربع الأول من القرن الـ19 الميلادي، حين تم فك الارتباط بين الطرفين بالدم والنار، فإن الحاجة تبدو ضرورية للتعرف على التفصيلات الشائقة لذلك كله، لمحاولة الوصول في النهاية إلى أغراض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من إطلاقه اسم بكتاش على العام 2021، ومدى معقولية الاتهامات العربية المؤسسة على ذلك الخبر.
من هو بكتاش؟.. ومن هم البكتاشية؟عقيدته منحرفة رفضت الصلاة والصوم
الحاج بكتاش صوفي مبرز أصله من بلاد فارس (إيران الحالية). رغم تضارب الروايات حول تاريخ مولده ووفاته، فإن ثمة اتفاق بين المؤرخين حول أنه واحد من الصوفية الإيرانيين الكبار، الذين لعبوا خلال القرن الـ13 الميلادي، القرن الذي انهارت فيه وحدة العالم الإسلامي، دورا كبيرا في إدخال القبائل التركية، والتي كانت تهاجر باستمرار تحت ضغط المغول، من آسيا الوسطى إلى آسيا الصغرى (الأناضول أو تركيا الحالية) بالإسلام. ومن بين تلك القبائل القبيلة التي انتمي إليها العثمانيون الأوائل.
يقول أحمد آق كوندوز، وسعيد أوزتورك في كتابهما الدفاعي عن تاريخ الدولة العثمانية، والمسمى بـ(الدولة العثمانية المجهولة)، عن أولية الحاج بكتاش: «إن الحاج بكتاش حسب قبول ونقل المصادر العثمانية ولي مشهور من أولياء الله، يتصل نسبه عن طريق الإمام موسى الكاظم وهو أحد الأئمة الإثنى عشر في المذهب الشيعي الإمامي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ولد في مدينة نيسابور في خراسان واسم والده السيد محمد بن سيد إبراهيم الثاني، أو السيد موسى، ووالدته بنت الشيخ أحمد الذي كان من علماء نيسابور واسمها خاتم أو ختمة خاتون، وهذه المعلومات ليست مؤكدة، وبينما لا تذكر معظم هذه المصادر تواريخ الميلاد نرى أن الشيخ البكتاشي الشيخ بابا م. ثريا يذكر أنه ولد العام 1247».
يتابع الكتاب: «يروى أنه (أي بكتاش) درس العلوم الظاهرية والباطنية من الشيخ لقمان الذي يقال إنه كان خليفة للشيخ أحمد يسوي، وأنه ترقى حتى أصبح خليفة له، وأنه جاء إلى الأناضول واستقر في مدينة قيصري في بداية القرن السابع الهجري. ويذكر في بعض المصادر أنه جاء في العام 1281، أي في أوائل العهد الذي كانت تبذر فيه بذور الدولة العثمانية. وتقابل مع قرجة أحمد سلطان – وهو من أبدال (الأبدال رتبة شهيرة في التصوف الإسلامي) الروم المشهورين – وكان ساكنا في مدينة سفر حصار وأصبح موضع ثنائه. ويقال أنه حج قبل مجيئه إلى الأناضول وحمل لقب الحاج. ثم ذهب إلى قضاء حجم – إحدى أقضية قر شهر – أو إلى منطقة “صوصوجه قراه أويوك” ويسمى أيضا حاجي بكتاش، وأسس هناك تكية له وبدأ بإرشاد مريديه.. استمر في فعاليات الإرشاد حتى وفاته العام 1337 حسب السجل العثماني، بينما يرى مؤرخون آخرون أنه توفي العام 1271».
خلال الفترة التي عاشها الحاج بكتاش في الأناضول، أشرف بنفسه على تشكيلات الآخيين (أي الأخوة). وهي جماعات صوفية مسلحة، كونها أفراد القبائل التركمانية في الأناضول، على أساس عقيدة الفتوة الإسلامية الشهيرة، واعتبروا أنفسهم، أثناء إقامتهم في الخلوات والتكايا، في حالة جهاد دائم ضد البيزنطيين المسيحيين في آسيا الصغرى. وكان الأمراء التركمان بلا استثناء تقريبا، يعتمدون على الآخيين، ليس فقط في قتال الخصوم البيزنطيين، وإنما كذلك في شحن الجنود معنويا قبيل وأثناء المعارك. وقد كان الأمير عثمان، مؤسس الدولة العثمانية، يعتبر نفسه واحدا من الآخيين، ويرتدي زيهم الخاص.
وعلى الرغم من صعوبة تحديد أطراف العقيدة التي كان يدعو إليها الحاج بكتاش، بسبب الشح الكبير في المصادر، فإن المؤرخين، واستنادا على الروايات اللاحقة التي عكست ظلالا من الأصل، أشاروا إلى تماثل عقيدة بكتاش مع الأطروحات الصوفية التي تبلورت خلال تلك الفترة المتأخرة من العصور الوسطى، حيث الخلط بين العقائد الشيعية الإثنى عشرية، والغنوصية القائلة بحلول الإله في الإنسان (الحلولية)، وغيرها من الأقاويل الباطنية، وهو ما يجعلها في وجهة نظر الإسلام السني، عقيدة منحرفة.
أما عن علاقة بكتاش بالعثمانيين تحديدا، فثمة روايات توصف بالـ “موضوعة في زمن لاحق من قبل البكتاشيين المتأخرين”، تشير إلى روابط باكرة للغاية بين الطرفين. أولى تلك الروايات تتعلق بنشأة الانكشارية، الفرقة العثمانية العسكرية ذات الصيت المرعب، والتي كونها آل عثمان، بمشورة قاضي بورصة جاندرلي خليل باشا من الأطفال المسيحيين الذين كانوا يؤخذون من أهاليهم في أنحاء البلقان، ويتم إدخالهم في الإسلام. وفقا للرواية البكتاشية الشائعة، فإن الحاج بكتاش التقى بأول فوج من الانكشارية وألبسهم ردائه أو غطاء رأسه. ومنذ ذلك الوقت، أصبح بكتاش المرشد الروحي لكل الانكشارية، كما أصبح كل الانكشارية من أتباع بكتاش، أو ما أصبح يسمى بالطريقة البكتاشية.
أما ثاني الروايات، فتشير إلى زيارة الأمير أورخان، ثاني أمراء الدولة العثمانية، لـ “كيكلي بابا” الذي كان منتسبا إلى زاوية بكتاشية، وإهدائه خمرا إلى كيكلي، في توكيد على إيمان أورخان بمعتقد بكتاش وأتباعه والذي يحلل شرب الخمر.
يجادل كلا من أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتورك لنفي كلا الروايتين، استنادا إلى حقيقة الوفاة المبكرة للحاج بكتاش، وبالتالي عدم لحاقه بلحظة تكوين الانكشارية. ولكن ذلك لم ينفي من جهة أخرى، سعي العثمانيين منذ اللحظة الأولى لجعل البكتاشية، المعين الروحي الذي ينهل منه الانكشارية، من حديثي العهد بالإسلام، معارفهم حول الملة الحنيفية. كما أن وصف (الدولة العثمانية المجهولة) الانحراف العقدي في عقيدة البكتاشية بـ”المتأخر”، تنفيه الشهادات التي نجدها عند الرحالة المغربي ابن بطوطة، أو مؤرخو المماليك من أمثال المقريزي، والذين اتفقوا على ممارسات منحرفة في تكايا الصوفية التركمان بآسيا الصغرى، أهمها شرب الخمر وأكل الحشيش.