محمود الورواري: الاغتيالات منتَج الغَلبة السياسية والغَلبة العسكرية
الاغتيالات هي محض نتيجة ومحصلة لمجموعة أفكار يتبناها حتى المختلفون فيما بينهم، وحين تكثر الاغتيالات في بلد، عليك أن تفتش عن الاتجاهات المغلقة التي لا تقبل فكر الآخر فترفضه ولا تقبل وجود الآخر فتقتله.
الانغلاقية هي مزرعة لتربية عجول القتل، وبالتالي فإن الانشغال بالاغتيال نفسه من دون أن يتم رده إلى أصله ومزرعته التي تربى فيها يكون معالجة ناقصة.
اغتيال لقمان سليم، الناشط السياسي والمثقف الجريء، هو تجسيد حقيقي لما نقول عنه، لأنه ليس حادث الاغتيال الأول ولن يكون الأخير للأسف، لأن الفكر الخام للقتل موجود، وهي الجماعات والتيارات الانغلاقية التي امتلكت آلة القتل وامتلكت الغلبة السياسية.
إذاً، تلك هي الأسباب التي من شأنها أن تحوّل مجرد فكر منغلق، إلى فكر منغلق قادر على تنفيذ آلية القتل حين يمتلك السلاح، وقادر أيضاً على تسويف الحقيقة وإخفائها حين يمتلك الغلبة السياسية.
كل ذلك ستجده متجسداً في لبنان، بسبب وجود ميليشيا «حزب الله»، وموجود في العراق بسبب ميليشيات إيران، وستجده في تونس بسبب وجود الفكر الإخواني.
ليس صدفةً أبداً إذا رصصنا ثلاث حالات للاغتيال، وبدأنا نُعمل فيهم منهجية التحليل التراكمي الفكري، وهم:
اغتيال لقمان سليم في بيروت، ومن قبله الكثير والكثير.
اغتيال هشام الهاشمي في العراق، ومن قبله ومن بعده الكثير والكثير.
اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في تونس.
نبدأ بالحالة اللبنانية متمثلةً في نموذج الغلبة السياسية، التي نتجت عن الغلبة العسكرية، تبلور ذلك في ميليشيا «حزب الله».
ولن أعود إلى الوراء كثيراً، فقط سأعود إلى عام 2005، وتحديداً في شهر فبراير (شباط)، حيث تم اغتيال رفيق الحريري ومَن كانوا معه، في ذلك اليوم المشؤوم في أبشع جريمة اغتيال سياسي فجّة ومفضوحة.
وبعد أربعة أشهر فقط توالت الاغتيالات، لأنها كانت بمثابة منهج يعمل على الإسكات والتخويف في آن واحد.
في شهر يونيو (حزيران) من نفس العام فقط تم اغتيال سمير قصير، وجورج حاوي، وجبران تويني، وبعدها في السنوات التي تلت ذلك تتابعت آلة القتل، حيث اغتيل وليد عيدو وأنطوان غانم وبيار الجميل وغيرهم الكثير.
كل الاتهامات والتحقيقات كانت تشير إلى ميليشيا «حزب الله»، حتى وصلنا إلى نقطة محورية لم يتم تفسير دلالتها حتى الآن، وهي حادثة تفجير مرفأ بيروت في أغسطس (آب) عام 2020، وهنا نحن أمام دلالة واحدة لا تحتمل التأويل وهي اغتيال «بيروت»، اغتيال مدينة هي بمثابة رأس بلد كامل هو لبنان، وحين يموت الرأس يموت الجسد.
ثم يأتي اغتيال لقمان سليم، مجرد تحصيل حاصل لتلك الرؤوس، التي ما زالت تطل لتكشف المستور والمسكوت عنه لهؤلاء القتلة.
ننتقل إلى تكوين آخر وبلد آخر لتجد أن الأفكار المدمِّرة لديها قدرة الانتقال في المكان أكثر من غيرها.
إلى العراق، وإلى حادثة اغتيال هشام الهاشمي المثقف الاستراتيجي والمحلل الأمني الذي اشتغل على كشف علاقة ميليشيات القتل والتدمير في العراق بإيران. تم اغتياله وشاهد الجميع فيديو الاغتيال في يوليو (تموز) 2020.
وتوالت الاغتيالات بعده كثيراً وسبقته أيضاً حوادث كثيرة، زادت منذ تفتح ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 على أيادي الشباب العراقي، كلها كانت ترفع شعارات الحرية والاستقلال ضد سطوة وسيطرة إيران.
حادثة اغتيال الهاشمي، سبقتها حادثة أكبر، وهي حادثة اغتيال العراق نفسه وتدميره كاملاً، منذ ما بعد 2005 تحديداً حين امتلكت ميليشيات إيران الغلبة السياسية، وأصبحت إيران تحكم عبر أسماء لا تنتمي للعراق إلا بحروف أسمائها أما الولاء والانتماء فهو إيراني بامتياز.
ابتلعت إيران العراق وما زالت تمتلك الغلبة السياسية لأنها تُركت لتمتلك الغلبة العسكرية.
ثم ننتقل إلى الحالة الثالثة، وهي الحالة التونسية، التي تُحيلنا إلى تاريخ حُفر في ذاكرة التونسيين وهو 2013، هذا العام الذي شهد حالتي اغتيال؛ الأولى لشكري بلعيد السياسي اليساري والمثقف في فبراير، نفس شهر الاغتيالات في بيروت، وبعدها في يوليو اغتيل محمد البراهمي المعارض من التيار القومي التونسي.
فريق هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي، اتَّهم الجهاز السري لحركة النهضة الإخوانية بأنه مَن يقف وراء الاغتيال، وتم تحديد اسم مصطفى خضر، أحد أبناء التنظيم الذي خرج من السجن بعد 2011 في الثورة التونسية، وهو الذي كان محبوساً على ذمة قضية محاولة الانقلاب على بورقيبة عام 1987، ويعد عنصراً عسكرياً نافذاً في الجهاز السري لإخوان تونس.
إذاً، بقليل من المقارنة بين الحالات الثلاث في تونس والعراق ولبنان، يمكن لنا تأكيد المنهج والفكر بغضّ النظر عن حامل هذا الفكر.
التشابه بين الإخوان في تونس وقبلهم في مصر وبين المنهج الخميني الذي قام على فكرة التصفيات الجسدية التي تبدأ بالأشخاص وتنتهي بالبلاد.
ولنا فيما يحدث في البلاد التي تشكلت فيها الميليشيات الإيرانية عبرة، فإما أن تكون معي وإما أن تكون ضدي، وما دمت ضدي فأنت مشروع قتيل في أجندتي.
المنهج الدموي خليط من فتاوى مغموسة برائحة الرصاص والبارود، فمن كان يتابع حديث شيوخ الإخوان في تونس قبل اغتيال بلعيد والبراهمي، كان يعرف أن دم الرجلين قد أُحلّ وانطلقت فتوى اغتيالهما.
الرسالة التي تلقاها لقمان سليم ملتصقةً بسيارته قبيل اغتياله بشهور تصبّ في نفس الإطار، إذ إنها تحمل تهمتين؛ الأولى الكفر، والأخرى الخيانة والعمالة، والاثنتان في منهج تلك التنظيمات الانغلاقية دائماً تكون عقوبتهما القتل.
الخطر الأكبر تخطى وجود تلك التنظيمات الظلامية إلى ما هو أخطر، وهو امتلاك تلك التنظيمات الغلبة السياسية والغلبة العسكرية، من هنا للأسف يبقى الخطر قائماً.