أحمد الجارالله : ثورة فلسطينية حتى آخر دولار
الثورة والثروة لا تجتمعان، فأمّا الأولى التي تعيش في الخنادق، وأما الثانية التي تعيش في الفنادق، لكن إن تجتمعا على طاولة واحدة فثمة سؤال كبير لا بد من الإجابة عليه وهو: لمن هذه الثورة التي يراكم قادتها ثروات على حساب دماء الشعب؟
منذ بدأت الثورة الفلسطينية منتصف ستينات القرن الماضي، تعرفنا إلى مجموعة قادة فيها لم يُعانوا مثل بقية شعبهم، بدءاً من ياسر عرفات، وصولاً اليوم إلى إسماعيل هنية وخالد مشعل، فكلُّ هؤلاء لم تتغبَّر أحذيتهم بتراب القواعد العسكرية التي نشرها مقاتلوهم في عدد من الدول العربية.
ففي حين تغتال إسرائيل في العام 1973 بعض قادة المنظمات بالعاصمة اللبنانية بيروت، وأعني محمد يوسف النجار، وكمال ناصر، وكمال عدوان، في منطقة فردان الراقية، كانت حينها مخيمات اللاجئين المنتشرة على الأراضي اللبنانية كلها من الصفيح.
لم يكن هؤلاء وحدهم ممن تخلوا عن بؤس شعبهم، فعلي حسن سلامة، المعروف بـ”أبي حسن سلامة”، مسؤول الاستخبارات في حركة “فتح” قتل أيضاً قرب منزله في تلك المنطقة، وأبعد من ذلك كان اغتيال أبو جهاد وأبو إياد في العاصمة التونسية بواحدة من أرقى مناطقها، وهي الحمامات، بينما قتل زعيم “الصاعقة” زهير محسن في مدينة كان الفرنسية، حيث كان يقضي إجازته.
من لم يمت من قادة “الثورة الفلسطينية” قتلاً، قضى على فراشه تاركاً خلفه ثروة كبيرة لأولاده، ومنهم ياسر عرفات، الذي قدرت ثروته ببضعة مليارات من الدولارات أورثها لزوجته وابنته، لذلك لا نستغرب حين تكون فاتورة سكن إسماعيل هنية في أحد فنادق الدوحة مليون دولار أميركي عن أحد عشر يوماً، أمضاها خلال الحرب الأخيرة على غزة، حيث كان الفلسطينيون يشوون بنيران الحمم الإسرائيلية، بينما “يُناضل” الرجل على طريقته في حمامات الـ”ساونا”، ويتلذذ بطيب المأكولات ويدبج الشعارات الرنانة، ليتحدث عن انتصارات موهومة لاحقاً، فيما نظيره بالكفاح خالد مشعل يعيش ومنذ سنوات في منزل فاخر، ولم يهدر أي نقطة عرق من أجل فلسطين التي سيُحرِّرها من النهر إلى البحر، كما يزعم، وهو بعيد عنها آلاف الكيلومترات.
كلُّ الحركات الثورية انتصرت في حروبها؛ لأن قادتها لم يغادروا الخنادق، فقد كانوا يعيشون مثل أي مقاتل، تماماً كما هي حال فيدال كاسترو، الذي بقي مع رفاقه في الغابات حتى استقلال كوبا، كما يروى أن الجنرال الفيتنامي جياب فضَّل النوم على الأرض في شقة أحد الطلاب الفيتناميين في باريس خلال المفاوضات على استقلال بلاده مع الأميركيين، ورفض عرض وزارة الخارجية أن يسكن أحد الفنادق الفخمة في العاصمة الفرنسية.
لو كانت الثورة بريئة من شبهة الثروة لما وصلت قضية فلسطين إلى دهاليز التسويات، ولا تشظت منظمة التحرير إلى 18 فصيلاً، منقسمة بين يساريين و”إخوان مسلمين”، وبعثيين، وناصريين، وقوميين عرب، وغيرهم، يسعى كلٌّ منها إلى احتكار شعار التحرير الذي يدر عليه الأموال، ولا تحوَّلت ثورة تسول على أبواب عواصم الدول، بل لما كان مُقاتلو تلك الفصائل أطلقوا شعارهم الشهير تعبيراً عن تحوُّل النضال الفلسطيني حين أصبحت منظمة التحرير سلطة أمر واقع في لبنان “ثورة حتى الشهر”.
لذا فإنَّ كلَّ الكلام عن انتصار في الحرب الأخيرة -التي تكبَّد فيها الأبرياء من الفلسطينيين في غزة ثمناً باهظاً بالأرواح والممتلكات – هو دجل القصد منه الحصول أكثر على الأموال؛ لأنَّ تلك الثورة هي في الحقيقة ثورة حتى آخر دولار؛ ليزيد قادتها ثرواتهم، فيما أصبحوا بطمعهم كمن يشرب من البحر، كلما عبَّ الماء ازداد عطشاً.