أحمد الصراف : هل سنخرج من الحفرة؟
لو عدنا بالزمن لعام 1965، ونظرنا لجزيرة سنغافورة من طائرة صغيرة، لما وجدنا غير قطعة ارض مساحتها 600 كم2، تمتلئ بالمستنقعات الآسنة والأوحال والبعوض، وسكان فقراء من خلفيات وألوان وأعراق مختلفة، من صيني لا ديني إلى هندوسي إلى مسلم ماليزي.
وبعد أكثر من نصف قرن بقليل ننظر من نافذة طائرة أخرى لنجد أن حجم الجزيرة ازداد قليلا لسبعمئة كم2، وأن المستنقعات تحولت لدولة عصرية متقدمة شديدة النظافة، ذات نظام صحي وقضائي وتعليمي قل نظيره، واقتصاد صلب ودخل فرد هو الأعلى في العالم، بفضل عصاة سحرية استخدمت بطريقة فذة اسمها «التعليم» وإصرار على عدم التساهل مع الفساد، بالرغم من فقر الدولة الصغيرة. فهي لم تمتلك قطرة نفط واحدة ولا جرام من المعادن ولا مصادر طبيعية، لا شيء على الإطلاق غير الإرادة القوية والنزاهة والرغبة في خلق دولة جديدة من «العدم»، تقريبا! وخلال سنوات قليلة احتلت سنغافورة، حسب «مؤشر دافوس»، الجدير بالثقة، منذ سنوات طويلة، المراتب الأولى في العالم، تليها دول غربية عريقة، وبعيدا بسنوات ضوئية عن مستويات التعليم في عالمنا العربي.
آمن مؤسس سنغافورة المحامي الفذ «لي كوان يو» بأن ليس مهما أن نورّث أبناءنا شركات صناعية وتجارية واستثمارية ضخمة، بل الأهم تسليحهم بالعلم لكي يستطيعوا المحافظة على تلك الشركات والمصانع، ويستمر توسعها وتقدمها، وهذا لا يمكن أن يتحقق بغير توريثهم التعليم الجيد. فكثير من الأسر وَرّثَت أبناءها ثروات وشركات ولكن غالبيتها فشلت، لأن من أسسوها لم يعطوا أولادهم التعليم المميز والجاد، وهكذا تفتت تلك الشركات مع الوقت. وحدث الأمر ذاته مع غالبية دول المنطقة التي حققت ثروات هائلة من وراء استخراج النفط، ولكنها لم تعط التعليم الأهمية القصوى! وما ان تناقصت الإيرادات النفطية حتى اكتشف الجميع ضعف استثماراتنا البشرية، وتدني مستوى مهارات أبنائنا، وعجزنا الواضح عن خلق مصادر دخل بديلة عن النفط، وهذا عكس ما حصل مع دولة كالنرويج مثلا، التي أصبحت نفطية بعد الكويت بربع قرن، وأخذت منها فكرة الاحتفاظ بجزء من عائداتها النفطية في صناديق استثمارية، وأيضا بعدنا بربع قرن، واليوم الفرق بيننا وبينها واضح، وكل ذلك بفضل ما أولته من اهتمام للتعليم والنزاهة، وما لم نفعله! فقد صرفنا مثلا على «العلاج في الخارج» أكثر من ثلاثة مليارات دولار، خلال أقل من سنتين، ضاعت في جيوب البعض وسداد فواتير المستشفيات الغربية، ولم يحاسب حتى الفراش على ما صرف، وغالبا لكسب ولاء «نواب»، وما أن نشفت ميزانية العلاج حتى أدار «هؤلاء» ظهر المجن للحكومة الفاضلة، وصوتوا ضدها في كل قرار واقتراح ورأي!
لم يكن غريبا تاليا ملاحظة الهجمة الشرسة التي تعرضت لها، بعد مقابلتي الأخيرة مع قناة العربية عندما وصفت «aخريجي الثانوية»، ممن حصلوا على معدلات عالية، عن طريق اختبارات أون لاين «الخرطي»، وأرسلوا على أساسها لإكمال دراساتهم الجامعية في الخارج، بأن البعض منهم لا يصلح للعمل حتى بواب عمارة!
فمن هاجمني يعلم أنه او ابنه لا يستحقون شرف الابتعاث، ويمكن تبرير غضبهم بنسبة %1، فظروف الكورونا كانت غير عادية، ولكن هؤلاء وغيرهم عادوا ثانية، وبينهم نواب ملتحون يدعون «مخافة الله»(!!) لمطالبة الحكومة بإلغاء الاختبارات الورقية لطلبة الثانوية العامة لهذا العام، وإجرائها «أونلاين»!
نحن لم نقع في حفرة الجهل.. فنحن أصلا لم نخرج منها!