جعفـرعبـاس: كونوا كالضفدع الأطرش (1)
كتبت من قبل عن الضفادع التي اعتزمت الصعود الى سقف بناية شاهقة، بينما وقف جمهور حاشد من المتفرجين يضحك مستخفا بالضفادع ويصيح فيهم: بلاش هبل وخبل وعبط.. لا تحرجوا أنفسكم ايها الضفادع الهزيلة ولا حتى بمحاولة الوصول الى قعر نافذة في الطابق الأرضي! ثم كان ما كان من أمر طوابير الضفادع التي تدافعت لصعود البناية من جدارها الخارجي الأملس، وسردت كيف ان الآلاف منها فشلت في تلك المهمة، وتهاوت الواحدة تلو الأخرى، بينما ظل ضفدع صغير يقفز متجاهلا عبارات الاستخفاف والشماتة حتى وصل الى قمة البناية، واتضح ان الضفدع البطل الذي حقق ما لم يحققه ضفدع من قبل، كان فاقدا القدرة على السمع (أطرش)، وهكذا كانت عاهته نعمة لأنه لم يسمع الكلام المحبط الذي كان يصدر عن المشاهدين، وركز كل جهده على تحقيق غايته، وهي الوصول الى أعلى نقطة في البناية العالية.
والشاهد في هذه الحكاية هو ان على من يريد النجاح في أمر ما أن يسد أذنيه كي لا يسمع كلام الشامتين أو من يشككون في قدراته.. بعبارة أخرى «طنش» الكلام المحبط طالما أنك مصمم على تحقيق غاية تعتبرها مهمة مهما بدت صعبة المنال، فهناك دائما نفر من الناس لا يعملون ويؤذي نفوسهم ان يعمل ويفلح الآخرون، ولكن الواحد منا قد يصبح ضحية إحباط مصدره أناس قريبون منه، ولا يفعلون ذلك كرها له ولكن لأنهم أيضا بلا طموح او يفتقرون للرغبة في المحاولة والتجريب، وهناك من يمارسون إحباط الآخرين بينما مهمتهم الأصلية هي «التحفيز»، وعلى سبيل المثال فقد كان في المدرسة المتوسطة معلم يشكك في قدراتي الذهنية ويحرص على تذكيري بأنني غبي وحمار، لأنني لم أكن متفوقا في المادة التي يدرسها وهي الرياضيات، وكنت في قرارة نفسي اعرف أنه هو الغبي لأنه لم يكن ينتبه إلى أنني كنت دائما في «الخمسة الأوائل» في كل الامتحانات النهائية التي تشتمل على جميع المواد المدرسية، لأنني كنت أغطي فرق الفاقد من الدرجات في الرياضيات في المواد الأخرى.
ولكي تنجح وتثبت أنك لست غبيا «اعمل حالك اطرش» واجتهد في دروسك.. لو أعار البرت آينشتاين ملاحظات مُدرِّسته حوله انتباها لما صار العالم الذي غير وجه علمي الرياضيات والفيزياء، فقد كانت تكتب في تقاريره انه تلميذ خامل الذكاء ولا رجاء فيه. ولو استسلم ونستون تشيرتشل رئيس وزراء بريطانيا الأشهر لمن نصحه بتفادي الكلام أمام الآخرين لأنه كان «تمتاما» لما صار أشهر خطباء بلاده، وأعرف أن العديد من الشبان والشابات ذوي القدرات الواعدة في مجال الكتابة والأدب يتعرضون للتجاهل والاستخفاف من قبل «الكبار» الذين يلجأون إليهم طالبين النصح والتوجيه او المساعدة في «النشر». كان في السودان موسيقي ومطرب اسمه محمد وردي وكان في صدر الشباب يحب أغنيات مطرب صاعد اسمه إبراهيم عوض (توفي كلاهما الى رحمة الله)، ويردد تلك الأغنيات في جلسات خاصة، وخلال وجوده في مدينة صغيرة سعد وردي كثيرا عندما سمع ان ابراهيم عوض قادم لإحياء حفل غنائي، وتسلل خلال الحفل الى الكواليس ليلتقي بمطربه المفضل ويحكي له عن حلمه بدخول عالم الغناء على أمل ان يطلب منه ابراهيم عوض ان يردد أمامه جملة لحنية او أكثر.. ولكن ابراهيم عوض قال للصغير وردي: يا ابني (وكانا في نفس المرحلة العمرية) طريق الموسيقى والغناء وعر وصعب فابحث لنفسك عن طريق آخر! في تلك اللحظة قرر وردي عدم ترديد أي أغنية لذلك المطرب وقام بتلحين أغنيتين وتقدم بهما الى الإذاعة السودانية فأجازته كمطرب ذي طابع خاص. المهم ان وردي وخلال سنوات قليلة صار ولا يزال المطرب الأول في السودان واثيوبيا والكمرون والصومال وتشاد واريتريا وعموم أفريقيا جنوب الصحراء.. بل صار رمزا للأغنية الوطنية تخطب الحكومات السودانية المتعاقبة وده أو تطارده وتسجنه.. وهكذا ينجح صاحب الموهبة الحقيقية في إثبات أنه كاتب او شاعر أو….أو..، لو استمع الى موهبته ووثق في نفسه وسد أُذنيه كي لا يتسلل إليهما الكلام المحبط.