رأي في الحدث

علي الصراف : العقل إذا جاء متأخرا في قطر عن سوريا

جميل أن تنتهي قطر إلى القول إنها “لا تريد الخروج عن الإجماع العربي” بشأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية. كان أجمل منه لو أنها لم تدعم الطرف الأسوأ في ما انتهى إلى حرب أهلية في هذا البلد.

دور قطر هناك كان يقوم على مشروع لا علاقة له بما كانت تدافع عنه التيارات المدنية السورية. هذه التيارات، لم تكن لتفكر أصلا برفع السلاح. كانت تعرف مسبقا أنه مغامرة خاسرة ومدمّرة. وهذا ما حصل بالفعل. كان مفيدا لجلاوزة النظام هناك أن يقبلوا بالمشروع القطري من نهايته الأخرى، ففازوا.

واليوم عندما تعود سوريا إلى الجامعة العربية، فإنما لكي ترفع راية الظفر، على هذا المشروع، وعلى التيارات المدنية السورية في آن معا.

التيارات المدنية كانت تدعو إلى “إصلاح النظام” من داخله، ومن دون تهديد غلبة الحزب الحاكم، وذلك فقط من أجل إيجاد ظروف أفضل للتعايش بين الطغيان والحرمان. لم يكن ذلك نفسه مناسبا لمتطرفي الطغيان. فعمدوا إلى أخذ الأمر من الزاوية التي اقترحها المشروع الإخواني المسلح عليهم، فأمسكوا بها باعتبارها “فرصة”، فزادوها وبالا على وبال.

هناك شيءٌ، ما كان يجب، على الإطلاق، تغافله في التعامل مع أيّ نزاع داخلي في سوريا. وهو أن العلاقة بين الأقلية العلوية والأغلبية السنية، تنتسب إلى تاريخ دموي يعود إلى عدة قرون من الزمان. توارث الجميع أحقادها. كما توارثوا التوريات بشأنها، حتى امتدت إلى لغة التخاطب اليومية بين الناس. هذه اللغة التي ظلت تحمل ألغازا من جهة، وانحناءات ذليلة من جهة أخرى، لتغطّي على ما لا تريد الإفصاح عنه.

“مجزرة حماة”، كانت ردا على مجزرة سابقة وعلى إذلال سحيق تعرضت له الأقلية العلوية الفقيرة في ريف هذه المدينة. فحملت هذه الأقلية ضغائنها، في العام 1982، لترد عليه بالسحق والمحق والإذلال.

والسلاح الإخواني كان متوفرا أيضا. مجزرة مدرسة المدفعية في حلب كانت ما تزال في الأذهان عندما انطلقت قطعان الانتقام لترد على الصاع بألف صاع.

ما ظل يُتوارث بين العلويين، هو أنهم كانوا ضحية لـ”فتوى الفناء” التي أطلقها ابن تيمية، وتأبطها السلطان سليم الأول بعد “معركة مرج دابق” في العام 1516، ليحمل حملته لإبادتهم، فلما دخلت جيوشه حلب راكمت جثث ورؤوس نحو أربعين ألف قتيل، وقيل أكثر، حتى أصبحت تلا، وحتى أصبح المكان يعرف إلى اليوم بمنطقة “التل”، أي تل الرؤوس، وهي تقع بنحو كيلومترين غرب حلب.

لا تستطيع أن تتعامل مع أيّ طموحات في سوريا من دون أن تأخذ هذا التاريخ الدامي بالاعتبار. وعندما تكون الأقلية العلوية هي السلطة، فيجب أن تفكر عشرين مرة، قبل أن تدفع إلى رفع السلاح. من ناحية، لأنها أقلية، ومخاوفها أشد. ومن ناحية أخرى، لأن وارثي فتوى ابن تيمية، هم آخر، آخر، آخر، ما يجوز الاستعانة به في مساعي التغيير في سوريا.

تتحمل قطر، بهذا المعنى جزءا كبيرا ومهمّا من المسؤولية في ما أدى إلى انهيار البلد، وتهجير شعبه، وذلك بمقدار الجزء الكبير والمهم الذي يتحمله الطرف الآخر. كلاهما أمسك بالحبل نفسه، من النهاية التي يريد. فانسحقت البلاد.

الحماقة العمياء، والجهل الصافي، وانعدام البصيرة، هي ما حملت قطر إلى أن تدفع إلى تسليح الانتفاضة، وأن تُنصّب على رأسها جماعة الإخوان المسلمين.

منذ تلك اللحظة، صارت سوريا على موعد مع الخراب الشامل: أقلية مدججة بالحقد والسلاح، ضد أغلبية مدججة بالحقد والسلاح الذي وفرته الدوحة ودعمته أنقرة.

مشروع الإصلاح ما كان له إلا أن يكون مشروعا مدنيا، وطنيا، وديمقراطيا. مدني، بمعنى أنه ليس صراع سلاح، وإنما سجال تسويات. ووطني بمعنى أنه ليس صراع طوائف (لاسيما وأن الكثير من نخبة العلويين كانوا هم أنفسهم في طليعة المدافعين عن التحديث السلمي للنظام). وديمقراطي، بمعنى أنه صراع لنظام قيم سياسية وأخلاقية، فإن لم ينجح، فبمعنى ترويض الاستبداد على الأقل، وإعادة تأهيله بحيث يتأنسن قليلا ويكف عن مسالكه الهمجية.

فلم يكسب السوريون شيئا لا من هذا ولا من ذاك ولا ذلك.

قد لا يكون معقولا ولا مقبولا القول إن قطر هي آخر من يحق أن تكون له كلمة في تقرير مسار الأوضاع في سوريا. ولكن معقول تماما، أن يفتح صانعو القرار فيها بعض كتب التاريخ عن هذا البلد ليفهموا على الأقل أن في كل شبر منه مأساة، وأن لكل كلمة مُلغزة في توريات مخاطباته دلالات. والنظام القائم ليس هو مصدر المأساة الوحيد. التاريخ نفسه هو أحد أهم مصادر المأساة. والتعامل مع سوريا على أنها صراع بين “نظام استبداد” و”معارضة” (مسلحة كانت أم غير مسلحة) هو خلاصة غبية، لا تصلح لشيء على الإطلاق.

التغيير بالسلاح، كما ثبت حتى في بلد مثل ليبيا، لا يحمل إرثا تاريخيا كإرث سوريا، هو الآخر خيار غبي.

الديمقراطية لا تأتي بانقلاب. إنها مخاض اجتماعي أولا، يستخرج تسوياته ومفاضلاته ببطء شديد، لتتحول إلى مفاهيم وأدوات مقبولة على المستوى الجمعي، قبل أن تتحول إلى “نظام”. ولكن هات في الدوحة من يفهم مسارا كهذا، لكي نُقبّل جبينه ويديه.

الدوافع نحو قبول عودة سوريا إلى الجامعة العربية، متفاوتة بطبيعة الحال بين الدول العربية. العراق والجزائر لا ينظران إلى هذه العودة كما تنظر لها السعودية والإمارات، والأردن – هو الذي في الجوار- ينظر إليها ليس كما تنظر إليها مصر، محمولة بإرث “الجمهورية العربية المتحدة” لعام 1958. ولكن القاسم المشترك الأعظم، يدور حول ما إذا كان يمكن للجهود العربية المشتركة، أن تدفع إلى إعادة ترتيب الأوضاع، بحيث يمكن استئناف المسار الذي دمّره مشروع السلاح.

ضمان عودة خمسة ملايين سوري، معظمهم من السنة، إلى منازلهم وأراضيهم، لا تستعيد غلبة ديمغرافية، ما يزال من الواجب أن تخرج كليا من الحسبان، وإنما تستعيد التطلع إلى حياة مدنية لا تعتريها مخاوف وتهديدات.

لا سبيل لإصلاح نظام الطغيان الآن. لقد خسرنا هذه المعركة بفضل مشروع قطر المدجج بالإخوان. ولكن يمكن فرض شروط العقلنة عليه. يمكن تأديبه لأجل أن يبقى “إلى الأبد” كما يشاء، إنما ليقتفي أثرا غير مسالك الهمجية التي اعترته على طول الخط. على الأقل، لأجل أن تعود سوريا تصدّر القمح وليس الكبتاغون. وعلى الأقل لأجل أن تكون كيانا قادرا على التعايش مع نفسه. وعلى الأقل، ليكون لها نظام يعترف بأن صفحة من التاريخ الدامي يجب أن تطوى، وتطوى معها الأحقاد.

قطر ليس مطلوبا منها أن “تطبّع” علاقاتها مع “نظام بشار الأسد”، فذلك حق سيادي وطبيعي لها. إنها في حاجة أكثر مساسا لكي تُطبّع علاقاتها مع كتب التاريخ، لتتعرف عليه، وتفهم منه. فإذا ما استخلصت أن مشاريع التغيير بالسلاح، عمل بليد، وأن جماعة الإخوان، آخر، آخر، آخر، ما يمكن الرهان عليه في أيّ مكان، فإن الأمة العربية جمعاء سوف تنحني احتراما لقدرتها على احترام الإجماع العربي. العقل، حتى إذا جاء متأخرا، فإنه مفيد.

*العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى