جعفـرعبـاس : إصابة غير مباشرة بالكورونا
أعتقد أنني أنتمي إلى أقلية – ولكن عديدها الملايين – على مستوى الكرة الأرضية التزمت التزاما صارما بضوابط واشتراطات واحترازات تفادي الإصابة بفيروس كورونا، خاصة على صعيد التباعد الاجتماعي، فخلال الشهور الخمسة عشر الماضية لم استقبل ضيوفا في بيتي سوى لثلاث مرات، وكان ذلك عقب استجواب الضيوف، والتأكد من أنهم حصلوا على اللقاح المضاد للفيروس، والناس قد يضعون على الطاولات في غرف استقبال الضيوف في البيوت حلوى أو مكسرات أو تمر أو بعض المخبوزات، ولكن وعلى مدى أكثر من عام فإنني أضع على تلك الطاولات كمامات للأنف والأذن والحنجرة وقوارير تعقيم الأيدي، بحيث يكون من الميسور على الضيف الذي يتسلل إلى البيت بدون تصريح مسبق تحصين نفسه من «الإصابة المفترضة» وتحصين أهل البيت من العدوى المفترضة.
لم يصل بي الأمر حد الوسواس القهري من حيث غسل اليد وكل ما يأتي إلى البيت من ضروريات وكماليات سبع مرات إحداهن بالكحول، ولكنني ظللت أغسل يدي بالكحول والصابون يوميا عدة مرات حتى صار لوني يدي «فاتح» وصار من يلاقونني في موقع العمل يتجنبونني بحسبان أنني أعاني من مرض جلدي جعل لون يدي حنطاويا بينما بقية جسمي كاكاوي!! وعليه فإنني أقر وأعترف بأن الكورونا سببت لي اضطرابا نفسيا أو اجتماعيا، فبذريعة التباعد الاجتماعي قطعت صلتي بالأصدقاء والأقارب فلا أزور ولا أُزار، ولم يعد الحرمان من التواصل معهم «يفرِقْ معي»، ليس بمعنى أن البعد عمن أحبهم «غنيمة»، ولكن بمعنى أنني اعتقد انه من الخير لي ولهم أن يلزم كل واحد منا «حدوده»، ويحترم نفسه ويلزم بيته طالما جهات العمل نفسها لا تطالب معظمنا بالتواجد في مواقع العمل، وصرت أعزي نفسي بأنني لست مقصرا في حقهم وحق نفسي لأنني أراسلهم يوميا عبر تطبيق واتساب.
ثم اكتشفت أن واتساب كالخمر هو الداء في مسوح الدواء، فرغم أنني استخدمه لاستقبال النصوص والصور الثابتة والحية أكثر من استخدامي له لإرسالها، إلا أن مراجعته وتفقد محتوياته كل بضع ساعات وصل عندي حد الإدمان، ورغم أنني أتعامل مع الكثير مما يردني عبر واتساب تأسِّياً بقوله تعالى «إذا جاءكم فاسق بنبأ….»، إلا أنني استهل يومي بتفحُّص محتويات واتساب ثم أعاود الفحص كل بضع ساعات، واختتم يومي وقبل النوم مباشرة بمطالعة تلك المحتويات، وقد يؤدي ذلك إلى تطفيش النوم من عيني إذا وصلني أمر يستوجب الرصد والمتابعة وخاصة إذا كان يتعلق بشؤون العائلة الممتدة والوطن.
ثم كان ما كان من أمر صديقي الطبيب النفساني الذي هاتفني وتحدثنا عن عموم الأحوال، والوضع في الصومال وفنون كتابة المقال، وأصل الآه في الموال، ثم سألني ماذا عندي من كتب تستحق الاقتناء، فقلت له إنني لاحظت في وعن نفسي في الأشهر الأخيرة نفورا من القراءة، بل لم أعد راغبا في مشاهدة الأفلام الوثائقية، أو أي عمل تلفزيوني طوله أكثر من دقائق معدودة، فقال لي صديقي الطبيب ذاك إنني بلا شك أعاني من «متلازمة وسائل التواصل الاجتماعي» التي تجعل مستخدمي وسائط واتساب ومسنجر وفيسبوك لفترات طويلة يعانون من آلام في الرقبة وإصبع السبابة، وفقدان القدرة على التركيز، الذي ينجم عن إدمان الوجبات النصية السريعة والقصيرة، مما يسبب فقدان الشهية تجاه النصوص الطويلة المحكمة التي يتطلب الاطلاع عليها طول النفَس والبال.
وقرأت عرضا لكتاب «علم نفس الأوبئة» للدكتور ستيفن تايلر وهو كندي متخصص في علم النفس جاء فيه أن ما يتراوح ما بين 10 إلى 15 في المئة من الناس، لن تعود حياتهم كسابق عهدها سواء أصيبوا بالكورونا أم لم يصابوا بها، بمعنى أن هاجس ووسواس الإصابة بالفيروس سيلازمهم إلى اللحود، والراجح عندي هو أنني بت أعاني مما يسميه الطب النفسي «الوحدة المزمنة» وهي التي نجمت عن الابتعاد طويلا عن التداخل والتفاعل والتواصل المباشر مع دائرة معارفي في عصر ما قبل الكورونا، وأحسب أنني قد أجد صعوبة، أو قد أعاني من فقدان الرغبة في التواصل المباشر معهم بعد انحسار الجائحة، لأنني صرت استعذب «خلوتي» وانعزالي الاجتماعي.
ويبقى السيف المصلت على رقاب جميع بني البشر هو الخوف من المجهول، أي ما تخبئه السنون القادمة، فحتى لو اقتنع معظم الناس بأن لقاح الكورونا فعال في حفظ الأرواح إلى حد كبير، يبقى معلوما لديهم أنه سيصبح فيروسا «متوطِّنا» ولا علاج له أو منه بعد الإصابة به، فعدم «التيقن» من الحال والمآل قمين بتوسيع دائرة الاضطرابات النفسية في جميع البلدان.