د. أحمد بن عبدالعزيزالحداد : اغتنام الأوقات
يعيش المرء عمراً مقدراً له منذ الأزل في هذه الحياة السريعة الزوال، لا يتقدم عليه ولا يتأخر، وهذه حقيقة لا يجهلها أحد من الناس، إنما الذي يجهله الكثير هو قيمة العُمر الذي يعيشه، فإن كثيراً من الناس لا يبالي أكسب عمره وزمانه أم خسره، لعدم إدراكه قيمة الوقت، وأنه إن فات لا يعوض بحال.
إن عمرك أيها الإنسان هو أنفس ما تملكه في هذه الحياة كما قال الوزير ابن هبيرة:Volume 0%
والوقتُ أنفسُ ما عُنيت بحفظه/ وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ؟!
فإن سوَّفت لأمر المستقبل فإن التسويف وهْم حاضر، لأنك لا تدري هل تدرك المستقبل أم لا، فكان عليك الحرص على وقتك وحينك، كما قال العُمري:
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ/ ولك الساعةُ التي أنت فيها.
أي إنك لا تملك إلا ساعتك التي تعيشها، فاحرص على استغلالها بما ينفعك في دينك ودنياك، هذا ما ينبغي لكل إنسان أن يعرفه، فهؤلاء أرباب الدنيا والمال والأعمال يحرصون على استغلال أوقاتهم في عمارة الدنيا وجلب الرزق وإنجاز الأعمال، فلا يضيعون شيئاً من الوقت لتحقيق الكسب المادي، وهذا أمر مطلوب لعمارة الدنيا وتحقيق المصالح، إلا أن هذا ليس هو كل ما ينبغي الحرص عليه، فبقاء المرء في الدنيا ليس فقط لعمارتها، بل لعمارة الحياة التي سيقدم عليها إن عاجلاً أو آجلاً، لأن الدنيا في الحقيقة هي معبر وممر للدار الآخرة، فالمرء في دنياه يمخر في سَفرٍ جاد، والمسافر لابد له من التزود لطريق دار المقامة، ومنازل ذلكم الدار، فإنه كما قال الإمام علي كرّم الله وجهه:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها/ إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنُه/ وإن بناه بشرٍ خاب بانيها.
وهذا ما أمرنا به الحق سبحانه بقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، فالعمل لدار المقامة هو الأساس من الحياة الدنيا، فلا ينبغي لعاقل أن يفرط في العمل لذلك اليوم، ما دام لديه فسحة من الأجل، فما كانت الفرائض التي افترضها الله تعالى علينا، والنوافل التي ندب إليها المولى سبحانه وحث عليها نبينا المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، إلا لأجل ذلكم الدار حتى نسعد فيه، فمن فرط في اغتنام عمره لما ينفعه في دار المقامة يكون قد خسر خسراناً مبيناً، كما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» أي لكونه لم يغتنمها في ما ينفعه، وفي الحديث الآخر: «ليس يتحسّر أهلُ الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله فيها»، لأن ذكر الله تعالى باللسان أو الأركان هو عمارة للوقت المتاح، فإذا لم يغتنمه المرء كان حسيراً عليه، ولذلك قيل:
غدا تُوفى النفوسُ ما كسبت/ ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم/ وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
وها هي أنفس الأوقات قد هبَّت علينا؛ إنها أوقات عشر ذي الحجة التي أقسم الله تعالى بها تنويها بفضلها، فقال جل شأنه: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}، أي هل يدرك ذو الحِجر – وهو العقل – سر هذا القسم؛ إنه قسم للتنويه بفضل هذه الأوقات والأيام المباركة حتى ينتبهوا لها ويغتنموها في ما ينفعهم، وهو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما من أيام أفضلُ عند الله من أيام عشر ذي الحجة»، وفي رواية «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
ومن فضل الله تعالى أنه لم يحدد عملاً صالحاً في هذه العشر، بل عممه ليفعل المرء ما استطاع منه، صياماً أو قياماً أو صدقة أو تهيئة الأضاحي أو غير ذلك من الطاعات، فضلاً عن الحج والاعتمار، فالمسلم العاقل هو الذي يغتنم هذه الأيام بعمل ما يقدر عليه من الصالحات، ولزاما أن يترك السيئات.
فنسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه.
• الدنيا في الحقيقة هي معبر وممر للدار الآخرة، فالمرء في دنياه يمخر في سَفرٍ جاد، والمسافر لابد له من التزود لطريق دار المقامة.