عبدالمنعم ابراهيم : أمريكا تطالب (أوروبا) بأن تطلق النار على قدميها!

مشكلةُ أوروبا ليست مع روسيا أو الصين.. مشكلتُها الحقيقيةُ تكمنُ في خضوعِها للقرارِ الأمريكي وعدمِ امتلاكِ (الاتحاد الأوروبي) سياسة مستقلة عن (واشنطن)، وقد كان ذلك حتى قبل التدخلِ العسكري الروسي في أوكرانيا، وأصبح أكثرَ وضوحًا في انسياقِ (أوروبا) للعقوباتِ الاقتصادية والسياسية والتجارية والمالية التي فرضتها (واشنطن) على روسيا بعد العملية العسكرية الخاصة ضد أوكرانيا.. هذه العقوباتُ الأمريكية الفوضوية لم تترك تأثيرَها في الاقتصادِ الروسي فقط، بل جرت ويلاتُها الاقتصاديةُ على الدول الأوروبية نفسها التي تعتمد على (الغاز الطبيعي) الروسي في تحريك ماكينة مصانعها الثقيلة والخفيفة الأوروبية، بل تركت هذه العقوباتُ الأمريكية على روسيا تأثيرها في المجتمع والشعب الأمريكي الذي صار يعاني من ارتفاعٍ حاد في أسعار البنزين والوقود في المدن الأمريكية.. بل أثرت تلك العقوبات في الشركات الأمريكية التي لديها شراكات اقتصادية متبادلة مع روسيا.
لقد راهنت (واشنطن) على إحداثِ ضررٍ اقتصادي كبير على روسيا عقابًا لها على العملية العسكرية في أوكرانيا، وبحسب وكالة (رويترز) للأنباء كان «الروبل» الروسي قد خسر نصفَ قيمته في غضون أيام من عزل البنوك الروسية الرئيسية عن شبكة المعاملات المالية الدولية (سويفت)، وشل الجزء الأكبر من احتياطي النقد الأجنبي الخاص بالبنك المركزي الروسي البالغ 630 مليار دولار.. لكن«الروبل» تعافى كثيرا بعد شهر عائدا إلى مستواه قبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مباشرة، مدعوما إلى حد ما بضوابط رأس المال الروسية.. ولم تمس العقوبات حتى الآن أهم شريان حياة اقتصادي لروسيا، وهو مبيعات الطاقة لأوروبا، والتي قد تصل قيمتها إلى 500 مليون يورو (555 مليون دولار) يوميا بالأسعار الحالية، بل طالبت روسيا تسديد أوروبا مدفوعاتها بالروبل الروسي مقابل الغاز، الأمر الذي سيجعل أوروبا في حيرة سياسية، بين أن تلتزم بالعقوبات الأمريكية ضد روسيا لإضعاف الروبل الروسي، وأن تستجيب لموسكو وتدفع قيمة مشترياتها من الغاز بالروبل الروسي.
ومؤخرا بدأت تظهر أصوات أوروبية مثل ألمانيا وسويسرا وهنغاريا ودول أخرى ترفض مطالبات (واشنطن) بمقاطعة النفط والغاز الروسي، وتقول إن هذا مستحيل في ظل اعتماد أوروبا على 40 في المائة من الطاقة الروسية.. بل هناك دولٌ أوروبية شرقية تعتمد على روسيا بنسبة 92 بالمائة من الطاقة!
إذن أمريكا تدفع أوروبا إلى مقاطعةِ مصادر الطاقة الروسية، وهي دعوةٌ أمريكية أشبه بمن يطلق النار على قدميه! ويبدو أن (واشنطن) لا يهمها إن عاش الشعبُ الأوروبي بلا تدفئة في الشتاء القارس، أو أن تتوقف عجلات المصانع الأوروبية عن الدوران، وتوقف صادراتها الأوروبية إلى العالم بسبب اعتمادها على الغاز والنيكل الروسي الذي يدخل في صناعة السيارات! كل ما يهم ساسةُ (البيت الأبيض) الحاليين بقيادة (جو بايدن) هو إسقاطُ الرئيس الروسي (بوتين) عقابًا له على حرب أوكرانيا!
لكن الجانب الأخطر الذي تستشعره (واشنطن) حاليا بسبب العقوبات الاقتصادية المالية والتجارية ضد روسيا هو سقوطُ العملة الأمريكية (الدولار) كعملة مبادلات في السوق العالمي، وخصوصا بعد أن أعلنت روسيا والهند مؤخرا الاعتماد على العملات الوطنية لكلا البلدين في تعاملاتهما التجارية (بالروبل والروبية الهندية)، وسبق أن تم الاتفاق بين موسكو وبكين على إجراء معاملاتهما باليوان الصيني، كما صرحت (السعودية) بأنها ستعتمد صادراتها النفطية إلى الصين باليوان الصيني، كما سبق لفنزويلا وإيران اعتماد الروبل الروسي في المعاملات التجارية المتبادلة مع روسيا، وهناك دولٌ كثيرة بدأت تعتمد العملات الوطنية فيما بينها بدلا من الدولار، ويقول الخبراء إن دورة رأس المال العالمي تعتمد عملة أساسية موحدة تاريخيا مدة مائة عام تقريبا، وهذا يعني أنه لم يتبق من عمر الدولار الأمريكي سوى سنوات قليلة.. وإذا ظلت أوروبا مرتهنة للقرار السياسي الأمريكي وتبعيتها العمياء لواشنطن فإن (اليورو) الأوروبي هو الآخر سوف يحتضر ويفقد بريقه الاقتصادي في السوق العالمية بنفس مصير الدولار الأمريكي.