أحمد الجارالله : للحكام العرب نقول: مَنْ راقب الناس مات همّاً
ضيَّعت الأنظمة الثورية العربية طريقها وحكمت على نفسها بالفشل منذ جعلت أولوياتها مراقبة الناس والتجسس عليهم، فغرقت في دوامة الخوف والرعب وأغرقت شعوبها معها بعدما كرست أساليب العمل الاستخباري كسلوك بين الناس وبات التجسس يطول أحلام المواطنين، فممّا يُروى عما كان يحصل في عهد معمر القذافي، أن مواطناً ليبياً رأى في منامه أنه يضرب العقيد فلقة، وحين أفاق من نومه حكى لزوجته ما رآه في الحلم، التي بدورها روته لجارتها أم سالم.
في الليلة نفسها حضرت دورية من اﻷمن الداخلي واعتقلت الرجل، مدة أسبوع، ولما أطلق سراحه عاد إلى البيت يعاني من الضرب المبرح وبعض الكسور في عظامه، ولم تمض ساعة على عودته حتى حضرت الدورية ذاتها مرة ثانية، فقال لهم: “خلاص التوبة والله العظيم ما عاد أحلم مرة ثانية”، قالوا: “لا تخف إحنا جايين نسألك بس مين اللي كان ماسك رجلين القائد لما كنت تضربه”؟ فقال: “زوجتي وجارتنا أم سالم”!
هذه الحكاية نموذج قريب جداً من واقع الجمهوريات الثورية العربية، ففي مصر بعد نجاح انقلاب الضباط الأحرار على الملك فاروق، أعطيت الاستخبارات سلطات واسعة، من اعتقال وتغييب للمصريين ومراقبة حتى الوزراء.
ومما يذكر أن أحد وزراء الأوقاف في عهد جمال عبدالناصر، من خريجي الأزهر، كانت له عشيقة اسمها سوسو، وكل ليلة كان يتسامر معها هاتفياً، فيما الاستخبارات تسجل المكالمات، وترسلها أولاً بأول إلى الرئيس، وفي يوم خالف الوزير تعليمات عبدالناصر في شأن وزاري، فنوى إقالته، وحين وصل إلى القصر بادره الرئيس قائلاً: “إيه أخبار سوسو”؟ رد الوزير: “سوسو بألف خير، ودي استقالتي يا ريس، وعليكم السلام”.
في اليمن بعد الانقلاب على الإمام حميد الدين سار كل الرؤساء على المنوال نفسه، إذ كان الأخ يتجسس على أخيه والزوجة على زوجها، وتُكال التهم وفق مزاجية المسؤول أو الضابط، فعمّت الكيدية، ما أعاق أي توجه لتطور الدولة لأن الخوف ساد بين الجميع، حتى الوزراء كانوا لا يقدمون أي مشروع تنموي خوفاً من ألا يكون مطابقاً لتوجهات الحزب الحاكم أو مجلس قيادة الثورة، فتخلفت بعدما كانت قبل الانقلابات في طليعة الدول النامية.
لقد أخذت تلك الأنظمة، يومذاك، أسوأ تقنيات التجسس والتعذيب التي كانت تستخدمها الاستخبارات الروسية إبان حكم لينين وستالين ضد المناوئين لحكم البلاشفة، فيما اليوم أصبح العالم قرية صغيرة بفضل التقنيات المتطورة، وبالتالي فإن حرية الرأي والتعبير لم تعد محصورة بين جدران المنازل، وباتت مشاعاً للجميع، لذلك تغيرت أساليب التعامل مع المعارضين، فالاغتيال صار معنوياً، والاعتقال والإخفاء لم يعودا موجودين إلا في العراق حيث الميليشيات الطائفية العميلة لإيران تعمل بأسلوب الاستخبارات الإيرانية ذاته، أي الاغتيال الجسدي والإخفاء القسري في أقبية سجون أشبه بكهوف القرون الوسطى.
لقد حاولت عصابة “حزب الله” العمل وفق هذا الأسلوب في لبنان فأقدمت على سلسلة اغتيالات بين عامي 2005 و2020، بدءاً من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وانتهاء بالناشط الشيعي الجريء لقمان سليم، غير أن ذلك لم ينفع في إسكات اللبنانيين الذين كفروا بكل شيء بعدما أحكمت العصابة قبضتها على الطبقة السياسية، والاقتصاد ووظفت كل هذا لمصلحتها، ما أدى الى زيادة النقمة الشعبية التي تتجلى اليوم بالتظاهرات والاعتصامات، إضافة طبعا الى طوفان وسائل التواصل الاجتماعي بالانتقاد اللاذع لحسن نصرالله شخصياً.
زوار الفجر الذين كانوا ينشطون في الدول الثورية لم يعودوا زوار فجر بالمعنى الذي كانوا عليه في تلك المرحلة، بل أصبحوا جواسيس من خلف الشاشات يسجلون كل تغريدة وصورة ينشرها أي كان على تلك المواقع، وهم يُكيفونها وفق مصالحهم ورؤيتهم، أو بناء على تعليمات كيدية يصدرها هذا المتنفذ أو ذاك المسؤول، غير أن كل هذا يسقط فوراً أمام عظمة الحقيقة التي لا يمكن طمسها، لذا إذا أراد العرب الانتقال إلى عصر جديد عليهم معالجة أنفسهم للتخلص من عقدة مراقبة ثرثرات الناس وعدم المحاسبة على النوايا، لذا نقول للحكام العرب: من راقب الناس مات همَّاً.