جعفــر عبـاس : في أسواق الحرامية
كانت زيارتنا العائلية الأولى لماليزيا ممتعة، لأنها كانت أول مرة نزور فيها بلدا في شرق آسيا، ولسبب آخر يتفهمه المتزوجون وأصحاب «البنات» أي الذين من ذريتهم بنات، فلأن ماليزيا لم تكن وقتها وجهة سياحية معروفة، فقد كانت متاجرها تكاد تخلو من السلع التي تجتذب السائح الأجنبي، وقد يبدو هذا الكلام غريبا عن بلد مشهود له بوفرة وجودة انتاج مختلف السلع، ولكن ما كان حادثا وقتها هو ان السوق الماليزي كان يعج ويضج بكل أنواع الملبوسات، ولكن فقط على مقاس أهل البلاد، ومعروف أن سكان شرق آسيا: ماليزيا وتايلاند والفلبين وميانمار قصار القامة ونحيفو الأبدان، بدرجة أن عابثا أفتى بأن زواج المسلم بست ماليزيات يعادل الزواج بثلاث في بلدان أخرى، وكان معنى ذلك أن زوجتي وبنتيّ لم يجدن من يبرر مداهمة الأسواق لشراء الملبوسات لأن مقاس بنت ماليزية عمرها عشرون سنة يناسب بالعافية بنتا عمرها تسع سنوات من بلد غير شرق آسيوي.
وبالمناسبة فقد لفت انتباهي وانتباه غيري أن مسلمي شرق آسيا شديدو التدين ولكن كما هو حادث في «الأطراف» فإنه وفي بعض جوانبه تديُّن يتجلى في معظمه في مجال العبادات وليس العادات، ومن ثم ففيه كثير من «الدروشة» ويختلط فيه الموروث المحلي بتعاليم الدين، والبنت عندهم لا تسمح لشعرة واحدة بأن تنفر من غطاء الرأس، ولكنها قد ترى بأسا في ارتداء تنورة مشقوقة في أحد جوانبها أو بنطلونا يعصر تضاريس الجسم ويكشف أكثر من كونه يستر، وكأنما الشعر وحده هو المراد ستره تماما عن الأعين.
ثم صارت ماليزيا جاذبة للسياح وانتشرت مجمعات التسوق الضخمة والفخمة في مدنها الكبرى إلى جانب أسواق خاصة بالمنتجات الصينية والهندية، وفي الحي الصيني في كوالالمبور عثرت على بضائع بديعة الأشكال واشتريت منه أربع ساعات رولكس بلاتينية نظير نحو خمس دولارات لكل واحدة بغرض إهدائها لبعض الأصدقاء، (عند تجهيز حقائبنا لمغادرة ماليزيا اكتشفت أنه حتى الأرقام والعقارب اختفت من شاشات الساعات فكان مصيرها مقلب القمامة)، ودارت الأيام وزرت في عام 2018 مراكش المغربية وفي ساحة جامع الفنا جاء من يعرض علي ساعات رولكس بنحو خمسين دولارا للواحدة منها فقلت له: لو أعطيتني ساعة منها هدية أي بلا مقابل وفوقها خمسين دولارا لما قبلت بذلك.
كثير من السياح العرب المغرمين بلندن يشترون الهدايا التي يعودون بها إلى بلدانهم من سوق شبردس بوش الشعبي حيث تباع الملابس بالكيلو، وفي آخر زيارتين لكوالالمبور اكتشفت سوقي «ون أوتاما» و«سوقو»، واشتريت منهما كسوة عشر سنوات لنفسي وهدايا لأصدقائي بالطن المتري، أما السوق الذي جذبني في ماليزيا فهو سوق الكتب، ففي مكتباتها تكتشف أن سعر الكتاب أقل من واحد على عشرة من سعره في أي بلد آخر، لسبب وجيه هو أنها مقرصنة أي أن الآسيويين عموما يعيدون طباعة الكتب الشديدة الرواج بكلفة زهيدة ويبيعونها بأسعار زهيدة، واشتريت لنفسي وعيالي أطنانا من الكتب، وبذلك أسهمت في جريمة انتهاك حقوق الملكية الفكرية لمؤلفيها وناشريها بحكم أنني استفدت من تلك الجريمة.
وأذكر أنني دخلت مكتبة للمؤلفات القديمة في كوالالمبور واشتريت منها كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وكليلة ودمنة لابن المقفع وغيرهما، ولفت نظري وجود كتاب أنيق الغلاف عنوانه «بداية المقتصد ونهاية المجتهد»، فقلت لصاحب المكتبة إن الاسم الصحيح لكتاب الفقيه المالكي ابن رشد الحفيد هو «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، فاستشار الرجل غوغل وثبت له صحة كلامي فانشرح صدره ودخل معي في حوار طويل ثم سألني عن اسمي ورقم هاتفي وما إن قلت له جعفر عباس السيد، حتى صاح الله أكبر، فقد اعتبرني على الفور عالما نحريرا وفقيها مباركا، فقررت مجاراته وقلت له إن أمي اسمها آمنة وأخواتي خديجة وفاطمة فكاد يغمى عليه من الانبهار وقال إن في وجهي ميسم «آل البيت» فقلت له في سري: معك لغاية بلال بن رباح.