رأي في الحدث

عبدالله بشارة : الغزو.. بين الاستقلال والاستغلال

عندي اعتقاد جاء من حصيلة الغزو المدمر بأن الدول مثل البشر، بعضها محظوظ وبعضها مقرود، وتوصلت من قراءاتي بأن الكويت من أبرز الدول التي رافقها الحظ الطيب طوال تاريخها، ومهما قلت عن حيوية شعبها وعن الصلابة الذاتية والهوية الوطنية الكويتية فلا مناص من التوقف عند الحظ ومعناه تحولات الأحداث وتعرجات التهديدات التي استهدفت الكويت.
وهنا أتطرق إلى ما يلي:

أولاً- لم يتوقع أحد لا من الكويت ولا من خارجها بأن التهديدات الغليظة التي رددها صدام حسين في مؤتمر القمة في بغداد في شهر مايو 1990، وواصل سردها، ستتحول إلى الغزو يوم الثاني من أغسطس 1990، لأن الجميع، دولا وزعامات، استبعدت اللجوء إلى مثل تلك الخطوة لأنها ستفجر المنطقة وتؤذي سلامتها واستقرارها، وتصيب الأسرة العالمية في حيويتها وأمنها العالمي.

 
كان الشعور العام، يستبعد القوة، فمهما كانت سوقية الفكر السياسي للرئيس صدام حسين، فلن يغامر بمصير نظامه وبلده، بعد أن دمر العراق في حربه مع إيران، واستعبد الشعب العراقي بفرض نظام التوحش البشري عليه.

ثانياً- كنت أيضاً أستبعد الخيار العسكري رغم توجيه مذكرات الاتهام لدولة الكويت بإذلال العراق وسرقة ثرواته، فقد رأيت فيها شقاوة صدامية معبرة عن سيكولوجية العنف التي تبتهج وتتلذذ من آلام غيرها وتنتعش من إدخال الخوف في ضلوعهم، ولم أتصور أن استطعام التلذذ بإيذاء الآخرين سيدفعه إلى خيار الانتحار.

ثالثاً- تحرك العالم وبالذات العالم العربي لتطويق التوتر بعد نشر محتوى الاتهام الموجه للكويت، وجاء ممثل الجامعة العربية، وتحرك سمو الأمير سعود، وتحمل المرحوم الرئيس حسني مبارك عبء التوسط، ولأنه يريد النجاح فقد ضغط على الجانب الكويتي لحصر اهتمامه بجهود المتوسطين والتركيز على تسهيل مهمتهم، مع رجاءات بأن تلتزم الكويت بالجهد العربي ولا تخرج عن دائرته، ولا تتطلع لدور لمجلس الأمن أو من حلفاء، فلا تدويل، بل الاكتفاء بالجهد العربي، من هذا الالتزام فقدت الكويت الدور الدولي فأغلقت الأبواب دولياً، وحرمت الكويت من حقها في تنبيه العالم للمأزق الذي وُضعت فيه وفقدت صوت التأييد العالمي.

رابعاً- لم يكن الجانب العراقي كريماً مع المجتهدين، لاسيما مع الرئيس حسني مبارك، الذي لمس الجانب الكويتي فيه الإخلاص، في الحل والحرص على سلامة الكويت، مع استعداد الكويت للمرونة في توفير مناخ النجاح لمساعيه بما يعني الوصول إلى حلول وسط، ولا شك بأن هذا التوسط يتضمن شيئاً من مكافآت الترضية ينعم بها نظام الإبادة والدمار العراقي، ويخرج أكثر انتفاخاً وأخطر في عدوانيته، وفي غروره وزهوه المتعالي على الكويت والخليج.

خامساً- شعرت شخصياً بثقل القيود التي وضعتها المساعي العربية على حرية القرار الكويتي، فقد اجتمع وزراء مجلس التعاون في الرياض، لبحث الأزمة المهددة لاستقرار الدول الأعضاء، وقدم المرحوم الشيخ صباح الأحمد تقريراً يسرد فيه مسار الأحداث، مع شرح لموقف الكويت وتوجهاتها بالحل الودي، ومع تعليق الوزراء، تحدث وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات، السيد راشد بن عبدالله، ناصحاً بأن الإجراء الذي تبنته الإمارات هو الإجراء المناسب لهذه الأزمة، ولنوعية الزعامة العراقية، فكان رد المرحوم الشيخ صباح بأن الكويت ليست في وضع يسمح لها بإجراء مناورة مع الولايات المتحدة، ومع هذا الجواب، صدر بيان يدعم الكويت ويؤكد وحدة الموقف الخليجي وترابطه مع الكويت.

سادساً- ليس من السهل تصور وضع الكويت المثقلة بنتائج الوساطات وقيود المساعي السلمية مع استمرار بقاء صدام حسين حاصداً بلطجية الانتصار التي سيعرضها على الشعب العراقي كثمار وحصاد لدبلوماسية الحشد والتهديد، مع إبقاء الافتخار القيادي الذي سيتقمصه صدام حسين في فرض الزعامة على منطقة الخليج وعلى جهود الجامعة العربية.

سابعاً- نجاح الرئيس حسني مبارك ينقل الكويت من الهوية الكويتية-الخليجية، إلى هوية أخرى تتداخل فيها مصالح العراق ودبلوماسيته الغليظة مع شبكة المصالح الكويتية، ومهما كانت القدرة الكويتية على حصار النفوذ العراقي، فمن المؤكد أن الكويت ستصبح الرافعة السياسية والاقتصادية والجغرافية لما يريده عراق صدام حسين، ومهما قاومنا فسينظر لنا الآخرون بمن فيهم الأشقاء في الخليج بأننا صوت آخر لما يريده العراق.

كنا سنفقد الخيارات في الدبلوماسية وفي أسلوب الحياة، وستتحول الكويت داخلياً إلى كل ما يتناسب مع ما يريح عصابة الحكم في بغداد، ومع مرور الوقت يتحصن النظام العراقي مستغلاً إضافات في الدخل وتوظيفات طاقة الإعلام الكويتي الرسمي المستقل، وتوظيف صورة دبلوماسية الكويت الحسنة لخدمة أغراض صدام حسين وعصابته.

ثامناً- تخلصنا من احتمالات الاستغلال لأن رئيس العراق لم يستوعب نتائج جريمته وأصر على الحصول على كل الكويت وإلحاقها بأملاكه، لم يستوعب ما يمكن أن يحصل عليه سلمياً، وأعتقد أن تمكن غريزة الاحتكام للعنف في شخصيته وفي حياته، وبسبب الضلال التي تصوره زعيماً غير مسبوق لقيادة عرب المشرق والخليج، فضل الاستمرار في رفض كل حل سلمي ممكن.

وسار حسن حظ الكويت أن يختار صدام المواجهة مع الأسرة العالمية، ممثلة في مجلس الأمن، وجاءت الحصيلة تحرير الكويت، ودمار العراق وسقوط حكم العصابة الصدامية.

حافظت الكويت على هويتها وعلى أراضيها وشرعيتها ودستورها وتخلصت من جار مارق أتعبها في ابتزازاته.

تاسعاً- انحصرت طاقة الكويت، بعد التحرير، في تضخيم ترابطها الخليجي ثنائياً وفي إطار مجلس التعاون، وتحولت أهدافها إلى المكاسب الكويتية والخليجية، مع الالتزام بالقضايا العربية الكبرى، والتركيز على الجوانب التنموية، مع التطلع لتعميق الشراكة الإستراتيجية الشاملة، مع الحلفاء، والاتساع في العلاقات داخل الشبكة العالمية في الترابط بين جميع الدول، دون استثناء.

عاشراً- هزت تراجيديا الغزو الكويت، شعباً وحكاماً ومؤسسات، وتغيرت الأولويات، فنالت مصالح الكويت الوطنية صدر الاهتمام والتوجه القوي نحو مجلس التعاون، وترسيخ ثنائية الترابط مع المملكة العربية السعودية، والانفتاح على دروب التحالفات الإستراتيجية، في تأمين المصالح المشتركة التي تجمعها مع الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الكبرى، ورحبت بوجودها الأمني والعسكري مقتربة من مواقع التهديد، مع انطلاق في فضاء الإنسانيات بتنوعها داخل المنظمة العالمية وخارجها بترتيبات ثنائية، وتحصنت بتحالفات رادعة، بدلاً من جدار القيم في إقليم لم يتعرف على هذه القيم وعاش محروماً منها.

حادي عشر- انتفضت الغيرة الكويتية الشعبية وتبدل المزاج، وتحول مسار الرأي العام لتعظيم الهوية الوطنية وتعميق الترابط الداخلي وتمتين خيوط الاعتزاز بالكويت، وإبراز جمالياتها حول سيادة القانون والمساواة والاستنارة الفكرية والسلوكية، مع تحول إعلامي لتبجيل العروبة النقية المستندة إلى حكم الديموقراطية والدستور وإسقاط المساندة عن حكومات وأنظمة الإبادة والتدمير، والإصرار على أمن الأوطان وسيادتها.

ثاني عشر- الكويت اليوم دولة وطنية النبض، خليجية التوحيد، عربية المشاركة، إنسانية الأهداف، هذه علامات الدبلوماسية الكويتية منذ التحرير، تفي بالالتزامات، وتعطي بالقناعات، وتشارك راضية بالمكتسبات، لا تتحمل فوق طاقتها، ولا تهمل أولوياتها، رصدت دروس تجاربها، لاسيما تلك التي توصلت إليها من كارثة الغزو، فصار الردع أهم حصونها، وتفاهمات المصالح مقياسها..

اللهم ارحم شهداء الكويت، مستذكرين نبل النداء الذي دفعهم، وثمن الوطن الذي أقنعهم، وعظم التضحية التي خلدتهم، فهم في رعاية الخالق الذي ألهمهم بالقيم النبيلة التي آمنوا بها لوطن السكينة والاطمئنان.


أستأذن بالغياب لمدة أربعة أسابيع خارج الكويت، ولنا عودة.. دمتم بصحة وسعادة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى