رأي في الحدث

جعفـرعبــاس: أقوال ماموت عن الحياة والموت

كثيرون‭ ‬منا‭ ‬يرفضون‭ ‬ما‭ ‬يجيء‭ ‬في‭ ‬تقارير‭ ‬جهات‭ ‬ومنظمات‭ ‬علمية‭ ‬وطبية‭ ‬حول‭ ‬متوسط‭ ‬عمر‭ ‬الإنسان‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إطالة‭ ‬العمر،‭  ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬ينكر‭ ‬أن‭ ‬الأعمار‭ ‬بيد‭ ‬الله‭ ‬وأن‭ ‬لكل‭ ‬أجل‭ ‬كتابا،‭ ‬ولكن‭ ‬الله‭ ‬سخر‭ ‬لنا‭ ‬الأسباب‭ ‬لنعيش‭ ‬أصحاء‭ ‬ونبقى‭ ‬أحياء‭ ‬ونتفادى‭ ‬العلل‭ ‬والأدواء‭ ‬لتمتد‭ ‬بنا‭ ‬سنوات‭ ‬العمر،‭ ‬ومن‭ ‬البديهيات‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يهمل‭ ‬أمر‭ ‬العناية‭ ‬بصحته‭ ‬بالتغذية‭ ‬السيئة‭ ‬أو‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬طلب‭ ‬العون‭ ‬الطبي‭ ‬عند‭ ‬المرض،‭ ‬أو‭ ‬يتعاطى‭ ‬أمورا‭ ‬تفتك‭ ‬بالعافية‭ ‬يكون‭ ‬قصير‭ ‬العمر،‭ ‬وهذه‭ ‬سنة‭ ‬الحياة،‭ ‬ولكن‭ ‬السير‭ ‬مايكل‭ ‬ماموت‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬الأوبئة‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬لندن‭ ‬الجامعية‭ ‬نشر‭ ‬مؤخرا‭ ‬كتابا‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬ستيتاس‭ ‬سيندروم‮«‬Status‭ ‬Syndrome‭  ‬أي‭ ‬‮«‬متلازمة‭ ‬الوضع‭ ‬الاجتماعي‮»‬‭ ‬ويقول‭ ‬فيه‭ ‬إن‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬يطيل‭ ‬العمر،‭ ‬وتوصل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الاستنتاج‭ ‬بعد‭ ‬دراسة‭ ‬شملت‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭.‬

يعني‭ ‬اكتشف‭ ‬أنه‭ ‬وبصفة‭ ‬عامة‭ ‬فإن‭ ‬المدير‭ ‬يعيش‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬الموظف‭ ‬السنكوح،‭ ‬والمليونير‭ ‬يعيش‭ ‬‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬أيضا‭ ‬‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬سائق‭ ‬سيارته،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬مجرد‭ ‬نيل‭ ‬ترقية‭ ‬يتسبب‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬الصحة‭ ‬وتقوية‭ ‬جهاز‭ ‬المناعة،‭ ‬وان‭ ‬الحاصل‭ ‬على‭ ‬ماجستير‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الحاصل‭ ‬على‭ ‬بكالوريوس،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭- ‬وعلى‭ ‬ذمة‭ ‬ماموت‭ ‬هذا‭ ‬كلما‭ ‬علا‭ ‬شأنك‭ ‬الوظيفي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والمالي،‭ ‬كنت‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬حياتك‭: ‬تنام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬الفواتير‭ ‬واقساط‭ ‬السيارات‭ ‬والقرض‭ ‬المصرفي‭ ‬الذي‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬تسديد‭ ‬آخر‭ ‬قسطين‭ ‬منه،‭ ‬ورسوم‭ ‬الدراسة‭ ‬لعيالك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬يصبحوا‭ ‬أميين‭ ‬بـ«شهادات‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬تلقي‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الحكومية،‭ ‬وتشتري‭ ‬راحة‭ ‬بالك‭ ‬بفلوسك‭ ‬فلا‭ ‬تسمع‭ ‬طنطنة‭ ‬من‭ ‬شريك‭ ‬الحياة‭ ‬أو‭ ‬العيال‭.‬

ويخيل‭ ‬إليّ‭ ‬أن‭ ‬البروفيسور‭ ‬ماموت‭ ‬هذا‭ (‬واسمه‭ ‬فيه‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الموت‭) ‬يقصدني‭ ‬ويستهدفني‭ ‬شخصيا‭ ‬ببحثه،‭ ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬عمري‭ ‬قصير،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬المواصفات‭ ‬أعلاه‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬لطول‭ ‬العمر‭ ‬لا‭ ‬تنطبق‭ ‬علي،‭ ‬بل‭ ‬يستفزني‭ ‬أكثر‭ ‬بالزعم‭ ‬بأن‭ ‬الحالة‭ ‬الصحية‭ ‬لشخص‭ ‬يملك‭ ‬بيتا‭ ‬به‭ ‬ست‭ ‬غرف‭ ‬نوم‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬شخص‭ ‬عنده‭ ‬ثلاث‭ ‬غرف‭ ‬نوم‭ ‬فقط‭!! ‬هذا‭ ‬كلام‭ ‬فارغ،‭ ‬فقد‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬ست‭ ‬غرف،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ولا‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬غرفة‭ ‬النوم‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬نشأت‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬غرفة‭ ‬للنوم‭ ‬وأخرى‭ ‬للوقوف‭ ‬وثالثة‭ ‬للعب،‭ ‬ورابعة‭ ‬للجلوس‭ ‬فقط‭ ‬مما‭ ‬يشي‭ ‬بأن‭ ‬النوم‭ ‬فيها‭ ‬ممنوع،‭ ‬ففي‭ ‬الصيف‭ ‬كنا‭ ‬جميعا‭ ‬ننام‭ ‬في‭ ‬الحوش‭/ ‬الفناء،‭ ‬وفي‭ ‬الشتاء‭ ‬ننام‭ ‬جميعا‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬واحدة،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬النوم‭ ‬الجماعي‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬محددة،‭ ‬يحدث‭ ‬تقاربا‭ ‬شديدا‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬الواحدة،‭ ‬ثم‭ ‬نلت‭ ‬الشهادة‭ ‬الجامعية‭ ‬وتوظفت‭ ‬وصار‭ ‬لي‭ ‬راتب‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحلم‭ ‬به،‭ ‬ولكن‭ ‬اكبر‭ ‬بيت‭ ‬عشت‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬يعادل‭ ‬في‭ ‬المساحة‭ ‬نصف‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬نشأت‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬عمري‭ ‬حاجة‭ ‬الى‭ ‬بيت‭ ‬فيه‭ ‬ست‭ ‬غرف‭!! ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬فإن‭ ‬ماموت‭ ‬هذا‭ ‬خواجة‭ ‬أي‭ ‬غربي‭ ‬ودراسته‭ ‬تثير‭ ‬ضجة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وأوروبا‭ ‬وأمريكا،‭ ‬وخاصة‭ ‬أنها‭ ‬معززة‭ ‬بالأمثلة‭ ‬والأرقام،‭ ‬فكاثرين‭ ‬هيبيرن‭ ‬الممثلة‭ ‬التي‭ ‬نالت‭ ‬عدة‭ ‬جوائز‭ ‬أوسكار‭ ‬مثلا‭ ‬عاشت‭ ‬96‭ ‬سنة‭ ‬وقرير‭ ‬قارسون‭ ‬نال‭ ‬الأوسكار‭ ‬عام‭ ‬1942‭ ‬ومات‭ ‬عن‭ ‬92‭ ‬سنة‭!! ‬كلش‭ ‬زين‭!! ‬وملكة‭ ‬بريطانيا‭ ‬الحالية‭ ‬عمرها‭ ‬95‭ ‬سنة‭ ‬وهي‭ ‬تجلس‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬بلادها‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1952،‭ ‬يعني‭ ‬منذ‭ ‬نحو‭ ‬سبعين‭ ‬سنة‭.‬

ولكن‭ ‬ما‭ ‬العمل‭ ‬كي‭ ‬يسعى‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬لنيل‭ ‬طول‭ ‬العمر؟‭ ‬عندي‭ ‬الحل‭: ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬يصل‭ ‬ضباط‭ ‬الجيش‭ ‬رتبا‭ ‬معينة‭ ‬ويحسون‭ ‬بأنهم‭ ‬يستحقون‭ ‬أوضاعا‭ ‬أفضل،‭ ‬فيقومون‭ ‬بانقلابات‭ ‬عسكرية‭ ‬فيصبح‭ ‬العريف‭ ‬عميدا‭ ‬ويصبح‭ ‬الشاويش‭ ‬مشيرا‭ ‬ويصبح‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬خدمات‭ ‬الطعام‭ ‬رئيسا‭ ‬لهيئة‭ ‬الأركان،‭ ‬وبإمكان‭ ‬المدنيين‭ ‬فعل‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬بالاستيلاء‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الإدارات‭ ‬والشركات‭ ‬التي‭ ‬يعملون‭ ‬بها،‭ ‬فيطيحون‭ ‬بالمديرين‭ ‬ورؤساء‭ ‬الأقسام‭ ‬ويتقاسمون‭ ‬المناصب‭ ‬العليا،‭ ‬بل‭ ‬يلغون‭ ‬المناصب‭ ‬التعبانة‭ ‬البائسة‭ ‬فيصبح‭ ‬لكل‭ ‬إدارة‭ ‬أو‭ ‬شركة‭ ‬نحو‭ ‬100‭ ‬مدير‭ ‬و213‭ ‬نائب‭ ‬مدير‭ ‬ويصبح‭ ‬بقية‭ ‬الموظفين‭ ‬رؤساء‭ ‬أقسام،‭ ‬ثم‭ ‬نتوجه‭ ‬بالآلاف‭ ‬إلى‭ ‬البنوك‭ ‬ونقترض‭ ‬منها‭ ‬بالهبل،‭ ‬مستفيدين‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬البنوك‭ ‬تمنح‭ ‬القروض‭ ‬الضخمة‭ ‬لحاملي‭ ‬الألقاب‭ ‬الوظيفية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬المهم‭ ‬نقترض‭ ‬جميعا‭ ‬مبالغ‭ ‬ضخمة‭ ‬ثم‭ ‬نرفض‭ ‬سدادها،‭ ‬فينهار‭ ‬النظام‭ ‬المصرفي،‭ ‬ومعه‭ ‬الاقتصاد‭ ‬ونموت‭ ‬بالجملة‭ ‬بسبب‭ ‬سوء‭ ‬التغذية‭ ‬وتردي‭ ‬الخدمات‭ ‬الطبية‭ ‬وغيرها‭.‬

والشاهد‭ ‬يا‭ ‬ماموت‭ ‬أنه‭ ‬لولا‭ ‬البسطاء‭ ‬شاغلو‭ ‬الوظائف‭ ‬الصغيرة‭ ‬لتوقفت‭ ‬دواليب‭ ‬العمل‭ ‬برا‭ ‬وبحرا‭ ‬وجوا،‭ ‬فهم‭ ‬ملح‭ ‬الأرض‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬عاشوا‭ ‬سنوات‭ ‬قصيرة‭ ‬فإنها‭ ‬تظل‭ ‬حافلة‭ ‬بالكد‭ ‬والجد‭ ‬ويجدون‭ ‬طعم‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى