رأي في الحدث

جعفـرعباس: جعلوني مثقفا رغم أنفي

لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للإنسان‭ ‬أن‭ ‬يفوز‭ ‬بلقب‭ ‬مثقف،‭ ‬ومن‭ ‬هي‭ ‬الجهة‭ ‬المخولة‭ ‬بإرساء‭ ‬ذلك‭ ‬اللقب‭ ‬على‭ ‬مستحقيه،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬الى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الثقافة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬فهي‭ ‬مصطلح‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬قضية‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يتفق‭ ‬على‭ ‬تعريفها‭ ‬شخصان،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬البعض‭ ‬يفوز‭ ‬بذلك‭ ‬اللقب‭ ‬لأنه‭ ‬يستخدم‭ ‬كلمات‭ ‬‮«‬كبيرة‮»‬‭ ‬في‭ ‬الكلام‭: ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭.. ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭.. ‬الفكر‭ ‬الأرسطوي‭ ‬إلخ،‭ ‬ثم‭ ‬فوجئت‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬الثلاثين‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعتبرني‭ ‬مثقفا،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬سمعت‭ ‬منهم‭ ‬كلاما‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬‮«‬أنت‭ ‬كمثقف‭ ‬عليك‭ ‬أن‭…‬‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬نحن‭ ‬كمثقفين‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬نقوم‭ ‬بكذا‭ ‬وكذا‭…‬‮»‬،‭ ‬وبعد‭ ‬ان‭ ‬ترددت‭ ‬هذه‭ ‬العبارات‭ ‬مرارا‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬أشخاص‭ ‬جالستهم،‭ ‬أدركت‭ ‬أنني‭ ‬انتميت‭ ‬الى‭ ‬قبيلة‭ ‬المثقفين،‭ ‬ثم‭ ‬أدركت‭ ‬لاحقا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانتماء‭ ‬ليس‭ ‬مدعاة‭ ‬للتفاخر‭ ‬والتباهي،‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬القبيلة‭ ‬ملاذ‭ ‬لمن‭ ‬يدعون‭ ‬عراقة‭ ‬النسب‭ ‬الثقافي‭ ‬وللمنبوذين‭ ‬والمستهبلين،‭ ‬وبالطبع‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬انتسب‭ ‬الى‭ ‬هذه‭ ‬القبيلة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الشاكلة،‭ ‬ففيها‭ ‬‮«‬عيال‭ ‬قبيلة‮»‬‭ ‬أصليون‭ ‬ومتمكنون‭ ‬من‭ ‬أدواتهم،‭ ‬وخاصة‭ ‬بعد‭ ‬تخفيف‭ ‬شروط‭ ‬الانتماء‭ ‬اليها،‭ ‬فقبل‭ ‬نحو‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬تقريبا،‭ ‬كان‭ ‬الشرط‭ ‬الأساسي‭ ‬للانتماء‭ ‬الى‭ ‬قبيلة‭ ‬المثقفين‭ ‬هو‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الشهادة‭ ‬الجامعية،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬اكتشف‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يستحقون‭ ‬عضوية‭ ‬القبيلة‭ ‬رغم‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يحملون‭ ‬شهادات‭ ‬‮«‬مبروزة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬صارت‭ ‬شروط‭ ‬العضوية‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صارت‭ ‬الجامعات‭ ‬تنتج‭ ‬أميين‭ ‬بمرتبة‭ ‬الشرف،‭ ‬بينما‭ ‬برز‭ ‬أناس‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حظهم‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬النظامي‭ ‬كبيرا،‭ ‬ولكنهم‭ ‬علموا‭ ‬وثقفوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬بالمثابرة‭ ‬والمكابدة‭ ‬وطلب‭ ‬المعارف‭ ‬في‭ ‬مظانها،‭ ‬فكان‭ ‬حظ‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬عظيما‭ ‬لأنهم‭ ‬أفلتوا‭ ‬من‭ ‬الببغاوية‭ ‬التي‭ ‬تغرسها‭ ‬المناهج‭ ‬المدرسية‭! ‬وبصراحة‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬ومتى‭ ‬يحق‭ ‬للإنسان‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬لقب‭ ‬مثقف،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬هي‭ ‬الجهة‭ ‬المخولة‭ ‬بمنح‭ ‬هذا‭ ‬اللقب‭ ‬الفخم‭ ‬الضخم،‭ ‬وإذا‭ ‬اعتبرني‭ ‬البعض‭ ‬مثقفا‭ ‬فـ«بارك‭ ‬الله‭ ‬فيهم‮»‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أكثرت‭ ‬بالانتماء‭ ‬القبلي‭ ‬بالمعنى‭ ‬العريض‭ ‬للعبارة،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مجالسة‭ ‬‮«‬المثقفين‮»‬‭ ‬تستهويني‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص،‭ ‬لأنني‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬كان‭ ‬معظم‭ ‬أفرادها‭ ‬من‭ ‬الأميين‭ ‬أو‭ ‬الذين‭ ‬نالوا‭ ‬قدرا‭ ‬بسيطا‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬النظامي،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬تضعف‭ ‬صلتي‭ ‬بهم‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬السنين،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنهم‭ ‬يتمتعون‭ ‬بأصالة‭ ‬لم‭ ‬أجدها‭ ‬عند‭ ‬‮«‬المثقفين‮»‬،‭ ‬ويحترمون‭ ‬الإنسان‭ ‬لكونه‭ ‬إنسانا‭ ‬وليس‭ ‬لأنه‭ ‬صاحب‭ ‬لقب‭ ‬أو‭ ‬منصب‭ ‬أو‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭ ‬أو‭ ‬كتاب،‭ ‬وهم‭ ‬يتكلمون‭ ‬على‭ ‬سجياتهم‭ ‬فتخرج‭ ‬من‭ ‬أفواههم‭ ‬حكم‭ ‬السنين‭ ‬والتجارب‭.‬

وكنت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياتي‭ ‬العملية‭ ‬أتخذ‭ ‬من‭ ‬دكان‭ ‬ترزي‭ -‬أي‭ ‬خياط‭- ‬كان‭ ‬صديقا‭ ‬لي‭ ‬مقرا‭ ‬ثابتا‭ ‬في‭ ‬الأمسيات،‭ ‬نجلس‭ ‬أمام‭ ‬الدكان‭ ‬نتسامر‭ ‬إلى‭ ‬ساعات‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬ثم‭ ‬ننصرف‭ ‬الى‭ ‬بيوتنا،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬شلة‭ ‬الدكان‭ ‬بائع‭ ‬ثلج‭ (‬وهو‭ ‬بالمناسبة‭ ‬صاحب‭ ‬المحل‭ ‬الذي‭ ‬كتبت‭ ‬عنه‭ ‬مرارا‭ ‬وكان‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬ثلاجة‭ ‬البشرية‭ ‬للثلج‭ ‬البارد‮»‬‭)‬،‭ ‬وثلاثة‭ ‬من‭ ‬فنيي‭ ‬صناعة‭ ‬الأحذية‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬زملاء‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬ثم‭ ‬اختاروا‭ ‬التخصص‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأحذية‭ (‬أصبحوا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬ملاك‭ ‬مصانع‭ ‬ومحلات‭ ‬بيع‭ ‬الأحذية‭ ‬ويلعبون‭ ‬بالفلوس‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬زملائي‭ ‬المثقفون‭ ‬يعجبون‭ ‬بل‭ ‬ويتضايقون‭ ‬لأنني‭ ‬أخالط‭ ‬أشخاصا‭ ‬‮«‬دون‭ ‬مستواي‮»‬‭.. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬يغضبني‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يقصدون‭ ‬أن‭ ‬أصدقائي‭ ‬أولئك‭ ‬‮«‬دون‭ ‬مستواهم‮»‬‭ ‬هم،‭ ‬وخلال‭ ‬الترتيبات‭ ‬لزواجي‭ ‬كان‭ ‬أصدقائي‭ ‬المثقفون‭ ‬يجلسون‭ ‬معي‭ ‬لممارسة‭ ‬التنظير‭ ‬حول‭ ‬قضية‭ ‬فيتنام‭ ‬والشعر‭ ‬الحر‭ ‬وسيرة‭ ‬غيفارا،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬أصدقائي‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬‮«‬دون‭ ‬مستواهم‮»‬‭ ‬يتولون‭ ‬شراء‭ ‬مستلزمات‭ ‬حفل‭ ‬الزواج،‭ ‬وصنع‭ ‬أصدقائي‭ ‬الجزمجية‭ ‬لعروسي‭ ‬حذاء‭ ‬توارثته‭ ‬عشرات‭ ‬العرائس‭ ‬لجماله‭ ‬وإتقان‭ ‬صنعه،‭ ‬وأهداني‭ ‬صديقي‭ ‬الخياط‭ ‬عدة‭ ‬جلابيب‭ (‬لأن‭ ‬العريس‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يرتدي‭ ‬الجلابيب‭ ‬خلال‭ ‬طقوس‭ ‬معينة‭ ‬يتم‭ ‬خلالها‭ ‬طمره‭ ‬بالزيوت‭ ‬العطرية‭ ‬والحناء‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬صاحب‭ ‬محل‭ ‬الثلج‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬نصائحنا‭ ‬بأن‭ ‬اسم‭ ‬محله‭ ‬‮«‬ثلاجة‭ ‬البشرية‭ ‬للثلج‭ ‬البارد‮»‬‭ ‬يطفش‭ ‬الزبائن‭ ‬لأنهم‭ ‬سيعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬ثلاجة‭ ‬لحفظ‭ ‬الموتى،‭ ‬فقد‭ ‬تبرع‭ ‬بأطنان‭ ‬من‭ ‬الثلج‭ ‬للمدعوين‭ ‬الذين‭ ‬تناولوا‭ ‬العشاء‭ ‬على‭ ‬حسابي‭ ‬وأبادوا‭ ‬مدخراتي‭ ‬خلال‭ ‬ساعتين‭!!‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى