جعفــرعبــاس : عن الستر والفضيحة
أهل السودان ومصر من أكثر أهل الأرض استخداما للأمثال الشعبية عند التعبير عن الآراء وإطلاق الأحكام، والأمثال الشعبية هي ذاكرة الشعوب ومن ثم هناك مئات الأمثال المشتركة بين الشعوب العربية والمتوارثة عبر القرون ولكل شعب وأهل منطقة منظومة خاصة من الأمثال وليدة البيئات التي ظهرت فيها، وعبارة «السُتر والفضيحة متباريات»، مثل واسع الانتشار في السودان، وأجمل ما فيه أن كلماته الثلاث فصيحة، وبارى الشيء يعني تبعه وجاراه وماشاه وسايره، وفي السودان نقول: ما تباري فلان لأنه سيئ الخلق أي لا تسايره وتتبعه، ونستخدم الكلمة ومشتقاتها غالبا بمعنى تبع يتبع. ومعنى المثل هو أن هناك خيطا رفيعا بين الستر والانفضاح، وأنه على من يدرك أنه يرتكب «فضيحة» أن يستتر، وأنه قد يصعب في أحيان كثيرة كتمان الفضائح.
تذكرت المثل وأنا أقرأ حكاية الزوجين البوسنيين سناء وعدنان، اللذين كانا يتغازلان عبر الإنترنت بأسماء مستعارة، وكل منهما لا يدري أن الطرف الآخر في المغازلة هو شريك الحياة، وبما أن محترف الغزل يحرص على تقديم نفسه كـ«قمة» في الرقة والوسامة وحسن الخلق، فقد أسهب كل من عدنان وسناء في مدح الذات: تعرفي جعفر عباس؟ سبحان الله، وكأني توأمه.. بل هناك من يقول إنني أحلى منه!! بينما سناء بدورها: أنا باميلا أندرسون بس خلقة ربنا مش بالعمليات الجراحية!! حتى أيقن كل منهما أنه وجد في الآخر الحبيب الذي افتقده في «الزوج».. وتصور سعادتهما عندما اكتشفا أنهما يعيشان في نفس المدينة، وبالطبع لم يترددا في التخطيط للقاء يحول حبهما الإلكتروني إلى حب طبيعي «طالما نحن متفاهمان ومنسجمان في كل شيء وكلانا طرف في زيجة فاشلة». وتواعدا: طيب كيف سأتعرَّف عليك؟ بسيطة سأرتدي جاكيت بيج وبنطلون بني وقميصا أبيض ماركة فان هوزن، وبدورها قالت سناء: وأنا سأرتدي سكيرت فوق الركبة بقليل، لونه عسلي وبلوزة حمراء فاتحة.. وجزمة إيطالية بكعب عشرة سنتيمترات، وشعري أحمر على أصفر يجنن.. وجاء موعد اللقاء في مقهى ترتاده الطبقات الشبعانة.. ومن البعد لمح كل منهما الآخر وتعرّف عليه من ثيابه، وخفق القلبان: دمدم دمدم.. تكتكتك.. بم بم بم.. وانفرجت الأسارير بالابتسام، ولكن ما أن اقتربا حتى صاحا في تزامن: يا لهوييييي، جات الحزينة تفرح ملقتلهاش مطرح.. خيبة أمل كبيرة أن يخطط شخص ما لخيانة شريك الحياة، ويكتشف أن الطرف الآخر في الخطة هو شريك الحياة نفسه، وخلال دقائق كان عدنان وسناء قد اتفقا على الطلاق، وربما عاد كل منهما الآن إلى الإنترنت ليبحثا عن حبيب أو حبيبة بديلين بالمواصفات الإلكترونية اللي طلعت فالصو، وهي تحريف لكلمة فولس false الإنجليزية التي تعني «مزيف».
كثير من أولياء الأمور غافلون عن أن أبناءهم وبناتهم الذين قد يكونون ضالعين في غرام إلكتروني، يجعلهم يقضون الساعات الطوال في تبادل عبارات الحب والهيام.. وأخطر ما في الحب الإلكتروني أن يتوهم طرف بأنه غارق بالفعل في الحب، ويقرر تزويد الحبيب بصورة فوتوغرافية شخصية.. كثير من هذه الصور تجد طريقها إلى مواقع البورنو بعد التلاعب بها، وقد تصبح أداة للابتزاز. والبورنو هو «الجنس الفاضح». هل تذكرون حكاية حكم كرة القدم البرازيلي الذي كان يذاكر من خلف ظهر زوجته، أي يقيم علاقة مع أخرى من دون علم الزوجة قبل نحو خمس سنوات نزل صاحبنا إلى الملعب وطفق يصفر ويزمجر لضبط المباراة وفق القوانين السارية،.. ثم اعتدى لاعب على آخر وكان لا بد من طرده من الملعب بإبراز البطاقة الحمراء.. وكانت المباراة متلفزة وأخرج الحكم ال…… حمراء، ولكنها لم تكن بطاقة، بل قطعة ملابس داخلية نسائية.. وعاد إلى البيت فأخرجت له زوجته بطاقة حمراء حقيقة، وطردته من البيت ومن حياتها، وعندها أدرك صاحبنا معنى المثل السوداني «السترة والفضيحة متباريات»، ولنتذكر «إذا بليتم فاستتروا» وأن هناك خيطا رفيعا بين التواضع والضعة أي بين أن تكون متواضعا وأن تقبل الإهانة والإذلال فتكون وضيعا.