رأي في الحدث

جعفــر عبــاس:عندما تختل المعايير (1)

في‭ ‬نحو‭ ‬سنة‭ ‬18‭ ‬هجرية‭ ‬وفي‭ ‬عهد‭ ‬خلافة‭ ‬الفاروق‭ ‬عمر‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬اسودت‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الجفاف‭ ‬وصار‭ ‬لونها‭ ‬رماديا،‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬الرمادة‭ ‬ذاك‭ ‬عانى‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬مجاعة‭ ‬طاحنة،‭ ‬وبذل‭ ‬عمر‭ ‬كل‭ ‬مخزون‭ ‬بيت‭ ‬المال‭ ‬لتوفير‭ ‬الأقوات‭ ‬للناس،‭ ‬بينما‭ ‬حرم‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬السمن‭ ‬وكل‭ ‬سمينة،‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬جسمه‭ ‬هزل‭ ‬وخشي‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬الهلاك،‭ ‬ثم‭ ‬رفع‭ ‬عمر‭ ‬حد‭ ‬السرقة‭ ‬تفاديا‭ ‬لقطع‭ ‬يد‭ ‬من‭ ‬يسرق‭ ‬طعاما‭ ‬لنيل‭ ‬بعض‭ ‬الشبع‭.‬

ذلك‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بحال‭ ‬الرعية،‭ ‬ثم‭ ‬نحرك‭ ‬الشريط‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬مجتازين‭ ‬زهاء‭ ‬1500‭ ‬سنة‭ ‬لنتوقف‭ ‬عند‭ ‬عمر‭ ‬الآخر‭ ‬واسمه‭ ‬بالكامل‭ ‬عمر‭ ‬حسن‭ ‬أحمد‭ ‬البشير‭ ‬الذي‭ ‬طار‭ ‬من‭ ‬رتبة‭ ‬عميد‭ ‬إلى‭ ‬مشير‭ ‬بعد‭ ‬استيلائه‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬باسم‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬1989،‭ ‬وعاث‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬وصحبه‭ ‬فسادا‭ ‬فجعلوا‭ ‬خزينته‭ ‬العامة‭ ‬قاعا‭ ‬صفصفا‭ ‬وخزائنهم‭ ‬الخاصة‭ ‬مصابة‭ ‬بالتخمة،‭ ‬وذات‭ ‬عام‭ ‬هلّل‭ ‬بعض‭ ‬الصحفيين‭ ‬المرتزقين‭ ‬من‭ ‬حكومة‭ ‬البشير‭ ‬لتقرير‭ ‬نشرته‭ ‬صحيفة‭ ‬نيويورك‭ ‬تايمز‭ ‬الأمريكية‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬كاتبه‭ ‬إنه‭ ‬فوجئ‭ ‬بمظاهر‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬تناقض‭ ‬الصورة‭ ‬المسبقة‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬لنفسه‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭. ‬كان‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سمعه‭ ‬عن‭ ‬السودان‭ ‬يتعلق‭ ‬بالفقر‭ ‬والجوع‭ ‬والحروب‭ ‬واللاجئين،‭ ‬وفوجئ‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬الخرطوم‭ ‬بسيارات‭ ‬بي‭ ‬إم‭ ‬دبليو‭ ‬وأخرى‭ ‬رباعية‭ ‬الدفع‭ ‬من‭ ‬النوعيات‭ ‬المشهورة‭. ‬ودخل‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬المطاعم‭ ‬الفاخرة‭. ‬الصحفيون‭ ‬أولئك‭ ‬اعتبروا‭ ‬التقرير‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬السودان‭ ‬يشهد‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الرفاهية‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬عنها‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬الكثير،‭ ‬و«شهادة‮»‬‭ ‬براءة‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬والجوع‭ ‬والمرض‭.‬

فات‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬الخرطوم‭ ‬مائة‭ ‬ألف‭ ‬بي‭ ‬ام‭ ‬دبليو‭ ‬ومثلها‭ ‬من‭ ‬المرسيدس‭ ‬والرولز‭ ‬رويس‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬دليل‭ ‬سفه‭ ‬وفساد‭ ‬واستفزاز‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عشرة‭ ‬ملايين‭ ‬مواطن‭ ‬يحلمون‭ ‬بامتلاك‭ ‬حمار‭ ‬يعينهم‭ ‬على‭ ‬التنقل‭ ‬بين‭ ‬الحقول‭ ‬أو‭ ‬نقل‭ ‬سلعهم‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الى‭ ‬آخر‭. ‬دعنا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭: ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬يحلم‭ ‬فيه‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬المواطنين‭ ‬بالخبز‭ ‬والماء‭ ‬العكر‭ (‬وليس‭ ‬النقي‭) ‬فإن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬اللحم‭ ‬العجالي‭ ‬يعتبر‭ ‬استفزازا‭ ‬لمشاعر‭ ‬الأغلبية‭. ‬وأتكلم‭ ‬عن‭ ‬السودان‭ ‬لأنه‭ ‬وطني‭ ‬ولكن‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬بعضه‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تستجدي‭ ‬المعونات‭ ‬والمنح‭ ‬والهبات‭ ‬والقروض‭ ‬بالطأطأة‭ ‬والتنازل‭ ‬عن‭ ‬السيادة‭ ‬والكرامة‭ ‬الوطنية،‭ ‬ويمتلك‭ ‬3‭%‬‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬نحو‭ ‬90‭%‬‭ ‬من‭ ‬ثروات‭ ‬البلاد‭ ‬أو‭ ‬عائد‭ ‬تلك‭ ‬الثروات‭. ‬وعندما‭ ‬يكون‭ ‬معظم‭ ‬المواطنين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬سوى‭ ‬الفول‭ ‬والفلافل‭ ‬والحمص،‭ ‬ويعتبر‭ ‬اللبن‭ ‬من‭ ‬الحلويات‭ ‬والتمر‭ ‬فاكهة‭ ‬الأعياد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬البجاحة‭ ‬والوقاحة‭ ‬والصفاقة‭ ‬والرقاعة‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬حكومة‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬تخفيف‭ ‬العبء‭ ‬الضريبي‭ ‬عن‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬‮«‬تشجيعا‭ ‬للرأسمالية‭ ‬الوطنية‭ ‬والقطاع‭ ‬الخاص‮»‬‭. ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬غنى‭ ‬يعتقد‭ ‬بعض‭ ‬المواطنين‭ ‬أن‭ ‬الكافيار‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السيارات‭ ‬الإيطالية‭ ‬تضاهي‭ ‬الجاغوار،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يحسبه‭ ‬اسما‭ ‬لجزر‭ ‬تابعة‭ ‬لإسبانيا‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي‭. ‬أما‭ ‬المثقفون‭ ‬جدا‭ ‬فرغم‭ ‬فقرهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أنه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الطعام،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يظنون‭ ‬أنه‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬‮«‬الكفار‮»‬‭. ‬وبدون‭ ‬فخر‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬تناولت‭ ‬الكافيار‭ ‬الذي‭ ‬قالت‭ ‬عنه‭ ‬ممثلة‭ ‬مصرية‭ ‬ظريفة‭ ‬‮«‬هو‭ ‬البطارخ‭.. ‬بس‭ ‬بالإنجليزي‮»‬‭.. ‬نعم‭ ‬هو‭ ‬بيض‭ ‬نوع‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬تشتهر‭ ‬به‭ ‬إيران‭ ‬وروسيا،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬سمعت‭ ‬عنه‭ ‬كثيرا‭.. ‬كنت‭ ‬مدعوّا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬صديق‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الإمارات‭ ‬في‭ ‬دبي،‭ ‬وعند‭ ‬الجلوس‭ ‬الى‭ ‬مائدة‭ ‬العشاء‭ ‬وضع‭ ‬صاحبي‭ ‬حبيبات‭ ‬من‭ ‬مادة‭ ‬غربية‭ ‬الشكل‭ ‬على‭ ‬شريحة‭ ‬خبز‭ ‬كانت‭ ‬أمامي،‭ ‬وكما‭ ‬يحدث‭ ‬عندما‭ ‬تدخل‭ ‬مطعما‭ ‬راقيا‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتك،‭ ‬فقد‭ ‬تجسست‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬كي‭ ‬أعرف‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬يتعاملون‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الشيء،‭ ‬ويا‭ ‬للسعادة‭ ‬كانوا‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬يلفون‭ ‬الحبيبات‭ ‬بالخبز‭ ‬ويدخلونها‭ ‬في‭ ‬أفواههم،‭ ‬وفعلت‭ ‬كما‭ ‬فعلوا‭ ‬و‭..‬انفضحت‭.. ‬شعرت‭ ‬بقرف‭ ‬شديد‭.. ‬كانت‭ ‬الحبيبات‭ ‬كريهة‭ ‬الرائحة‭ ‬والطعم‭ ‬ولم‭ ‬أتردد‭ ‬في‭ ‬الصياح‭: ‬إيه‭ ‬البتاع‭ ‬ده‭ ‬ومددت‭ ‬يدي‭ ‬إلى‭ ‬منديل‭ ‬ورقي‭ ‬وبصقته‭ ‬فيه‭.. ‬وبدوره‭ ‬صاح‭ ‬صديقي‭: ‬اللي‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬الصقر‭ ‬يشويه‭.. ‬يا‭ ‬متخلف‭ ‬هذا‭ ‬كافيار‭ ‬اشتريت‭ ‬علبة‭ ‬صغيرة‭ ‬منه‭ ‬بـ5000‭ ‬درهم‭ ‬تكريما‭ ‬لك‭.. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬أعطني‭ ‬الفول‭ ‬ومعه‭ ‬خمسين‭ ‬درهما‭ ‬وحلال‭ ‬عليك‭ ‬الهباب‭ ‬ده‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى