الحبيب الأسود: تركي آل الشيخ مهندس الترفيه في السعودية..صانع البهجة التي تحولت إلى استفتاء شعبي على رؤية 2030
عندما يكسر موسم الرياض حاجز الـ10 ملايين زائر، والمليون سائح خلال 100 يوم، فذلك يعني أننا أمام ظاهرة غير مسبوقة في المنطقة والعالم، من حيث حجم الإقبال الجماهيري وتنوع وتعدد التظاهرات والفقرات والفعاليات التي وصلت خلال الدورة الحالية إلى أكثر من 7500 يوم فعالية، ونحو 10 معارض عالمية، وأكثر من 350 عرضا مسرحيا، إضافة إلى معرض ومزاد سيارات عالمية، وأكثر من 70 مقهى و200 مطعم، وبطولة ألعاب إلكترونية، وأكثر من 100 تجربة تفاعلية، وقد توزعت على مساحة تصل إلى 5.4 مليون متر مربع، وعلى 14 منطقة ترفيهية موزعة في أرجاء مدينة الرياض.
أول ما سيخطر ببال البعض هو أن للسعوديين ثروة طائلة وأموالا يهدرونها على هكذا تظاهرات، بينما الأرقام تقول شيئا آخر، فموسم الرياض حقق في نسخته الأولى عام 2019 مليار ريال، و10 ملايين زائر، ويتوقع المنظمون أن تحقق النسخة الحالية التي انطلقت في العشرين من أكتوبر الماضي 6 مليارات ريال.
في الأثناء تبدو كافة مناطق السعودية وكأنها في احتفال دائم بمواسم الترفيه التي تفتح الأبواب على واقع جديد مختلف، يتم تجسيده على أرض الواقع، من خلال مهرجانات ضخمة على صعد الإعداد والتنفيذ والتمويل والتأثير والمداخيل.
وما يبدو للبعض هدرا للمال ينعكس على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمكاسب مهمة ماليا ومعنويا، وبانتصار عملي للقوة الناعمة في بلد كان وجدانه يكاد يكون مرتبطا بالماضي دون غيره، وإذا به اليوم يتطلع إلى المستقبل بكثير من الطموحات الكبيرة والقدرات الاستثنائية مع احترام كامل لأصالة وعبقرية الماضي وانسجام مع الحاضر.
في صدارة ذلك المشهد تبدو شخصية تركي آل الشيخ، الذي يؤكد دوما أن السعودية تتجه بقوة لتصبح من بين أول 4 وجهات ترفيهية في منطقة آسيا، ومن بين أول 10 وجهات في العالم، مشددا على أهمية قطاع الترفيه ومدى اهتمام المملكة بتحقيق الأهداف المرجوة منه لتطوير مستوى الحياة في البلاد، إلى جانب مساهمته الفعالة في دعم عجلة الاقتصاد وخلق فرص العمل.
واقع جديد
ووفقا لرؤية 2030 التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ”تُعدّ الثقافة والترفيه من مقومات جودة الحياة“ لذلك تقرّر دعم جهود المناطق والمحافظات والقطاعين غير الربحي والخاص في إقامة المهرجانات والفعاليات، وتفعيل دور الصناديق الحكومية في المساهمة في تأسيس وتطوير المراكز الترفيهية، ليتمكن المواطنون والمقيمون من استثمار ما لديهم من طاقات ومواهب، إضافة إلى تشجيع المستثمرين من الداخل والخارج، وعقد الشراكات مع شركات الترفيه العالمية، وتخصيص الأراضي المناسبة لإقامة المشروعات الثقافية والترفيهية من مكتبات ومتاحف وفنون وغيرها، ومساعدة الموهوبين من الكتّاب والمؤلفين والمخرجين، والعمل على دعم إيجاد خيارات ثقافية وترفيهية متنوّعة تتناسب مع الأذواق والفئات كافّة، ولن يقتصر دور هذه المشروعات على الجانب الثقافي والترفيهي، بل ستلعب دورا اقتصاديا مهمّا من خلال توفير العديد من فرص العمل.
اليوم هناك الكثير من التحولات الثقافية والحضارية المهمة في المملكة المتجهة نحو المستقبل بقراءة جديدة للواقع المحلي والدولي والإقليمي، وبفهم مختلف عما كان سائدا لمتطلبات شعب 30 في المئة من أفراده من فئة الشباب الطامح إلى أن يعيش حياته في آفاق رحبة تعطيه فرصة الترفيه والانطلاق والانسجام مع العصر والانفتاح على العالم، وتساعده على صقل مواهبه وممارسة مختلف الهوايات سواء كانت رياضية أو ثقافية أو إعلامية.
ويمكن ملاحظة تلك التحولات من خلال المهرجانات الفنية الكبرى وفتح قاعات السينما، وتعميم الحفلات الفنية والعروض المسرحية، وتنظيم المسابقات الرياضية المهمة والاهتمام بالسياحة كمجال استثماري ذي جدوى اقتصادية تساعد على تنويع موارد الدخل الحكومي ببعد حضاري متميز يساهم في تكريس التنافذ الثقافي ليس بين مناطق الداخل الممتد فقط، وإنما مع الأمم والشعوب الأخرى.
مدينة ثقافية
يرى آل الشيخ أن سعودية 2030 قد انطلقت منذ إعلان رؤيتها، وأن الشباب في قلبها، والترفيه إحدى أبرز علاماتها بما يمثله من أهمية قصوى في حياة الشعوب والأفراد كتعبير عن الاحتفال بالوجود، وكضرورة صحية لتجديد الخلايا وتطوير القدرات الذهنية على التركيز وتحقيق التوازن الانفعالي للشخص، وتنمية وتنشيط علاقاته الاجتماعية، بالإضافة إلى تخفيف الضغوط اليومية، وامتلاك القدرة على إدارة هذه الضغوط بتوازن، والتفاعل الإيجابي مع الآخر.
ويشير الخبراء إلى أن الحاجة للقيام بأنشطة ترفيهية تعد عنصرا هاما وأساسيا في علم النفس وعلم الأحياء البشري. كما يتضمن الترفيه الربط بين سلامة العقل والصحة البدنية، لأنّ الترفيه يشمل تحريك العضلات والقيام ببعض الحركات الرياضية، فيما قد نعتبره نحن مجرد فعل نقوم به بغرض المتعة أو التسلية وإضافة بعض المرح لإيقاع الحياة اليومي لكسر الروتين، وإضفاء البهجة على حياة الفرد ليستطيع مواصلة مهامه بكفاءة.
والترفيه في عالم اليوم هو صناعة من الصناعات الكبرى ذات الأبعاد الاستراتيجية الفاعلة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، لذلك أعلنت السعودية في السابع من مايو 2016 عن تأسيس الهيئة العامة للترفيه لتقوم على تنظيم وتنمية قطاع الترفيه في المملكة وتوفير الخيارات والفرص الترفيهية لكافة شرائح المجتمع في كل مناطق المملكة، وإثراء الحياة ورسم البهجة، ولتقوم على تحفيز دور القطاع الخاص في بناء وتنمية نشاطات الترفيه.
في مارس 2019 أعلن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إطلاق أربعة مشاريع ترفيهية في مدينة الرياض بكلفة إجمالية تبلغ 23 مليار دولار وبإشراف ولي العهد الذي كان قد أعلن بدوره في أبريل 2017 عن إطلاق مدينة ثقافية رياضية ترفيهية بمنطقة “القدية” جنوب غربي الرياض بمساحة تبلغ 334 كيلومترا مربعا، وقال حينها إن هذه المدينة ستصبح معلما حضاريا بارزا ومركزا مهما لتلبية رغبات واحتياجات جيل المستقبل الترفيهية والثقافية والاجتماعية. وينقسم مشروع القدية، الذي يبعد 40 كيلومترا عن الرياض، ويعتبر أكبر مدينة ترفيهية في العالم. وتراهن رؤية 2030 على أن ينجح هذا المشروع في توفير 30 مليار دولار لخزينة الدولة بعد أن كان السعوديون يصرفون مبالغ طائلة سنويا في الخارج.
وبعد مرحلة إطلاقها ستؤول قيادة الهيئة إلى تركي آل الشيخ الذي يجمع المراقبون على أمتلاكه فلسفة خاصة ورؤية واضحة في إدارة المجال الترفيهي كقطاع حيوي واستراتيجي في دولة كانت إلى حد قريب جزيرة أقرب إلى الانغلاق التام عن العالم، ويدفع أبناؤها الكثير كتكلفة للسفر إلى الخارج بحثا عن فرص للترفيه والخروج من نمطية الحياة المقيدة بشعارات ما سميت صحوة دينية وصلت إلى حد منع السعوديين من مشاهدة السينما وحضور الحفلات الفنية الكبرى في بلادهم، ولاسيما منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي.
الأكثر تأثيرا
ينحدر آل الشيخ من أسرة عريقة في نجد بالمنطقة الوسطى من المملكة، والتي سمّيت بهذا الاسم نسبة إلى جدها الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي كان له دور مهم في الدولة السعودية الأولى التي أسسها محمد بن سعود آل مقرن أمير الدرعية وسط الجزيرة العربية، وقد تفرّد أحفاد الشيخ بالعمل الحكومي وبالإشراف على حقائب الشؤون الإسلامية والأوقاف والعدل والتعليم.
ولد في العام 1981 تخرج من كلية الملك فهد الأمنية حيث نال درجة البكالوريوس في العلوم الأمنية، كما تلقى العديد من الدورات في علم الجريمة والتحقيق وإدارة المخاطر والإدارة، وقد بدأ مهامه العملية في القطاع الحكومي بوزارة الداخلية واستمر حتى تقلد رتبة نقيب. ثم انتقل للعمل في إمارة الرياض لمدة عامين، عمل بعدها في مكتب أمير منطقة الرياض، ثمّ في مكتب وزير الدفاع وديوان ولي العهد، ليتم تعيينه مستشارا في الديوان الملكي بالمرتبة الممتازة، ثم ترقيته لمرتبة وزير، قبل أن يجري تكليفه برئاسة مجلس إدارة الهيئة الوطنية للترفيه.
استراتيجية هيئة الترفيه، كما أعلنها آل الشيخ تمثّل ثورة سعودية هادئة ليس فقط على مخلفات 40 عاما من تشدد الصحوة ودعاتها، وإنما على إرث ثقافي تميز طويلا بنظرته السلبية للفنون وأدوات الترفيه والبهجة، وبسيطرة رجال الدين التقليديين الذين كانوا دائما ضد أن تكون هناك أي أي مؤثرات في تأسيس وتشكيل وتغذية الوجدان الفردي والجماعي.
بين الرياضة والشعر
فاز عام 2017 بجائزة الشخصية الأكثر تأثيرا في كرة القدم في مؤتمر دبي الرياضي الدولي الثاني، وجائزة شخصية الثقافة الرياضية في الوطن العربي للعام نفسه. وهو يمتاز بسعة الاطلاع والخيال والقدرة على استنباط الأفكار الجديدة، ويحظى بثقة كبيرة من الملك وولي العهد، وبعلاقات واسعة مع الفاعلين الأساسيين في مجالات الفن والإعلام والرياضة والصناعات المتصلة بها وبكبار النجوم والمشاهير والمروّجين الاقتصاديين لمنظومة الترفيه في سياقها الدولي وفي المجال الرياضي.
توجته جائزة محمد بن راشد آل مكتوم للإبداع الرياضي، إحدى “مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية” كأفضل شخصية رياضية عربية، وقرر مجلس وزراء الشباب والرياضة العرب في ختام اجتماع دورته الـ42 بالقاهرة تكريم آل الشيخ نظير العمل المتميز والنجاح الكبير الذي تحقق لإعادة البطولات العربية للواجهة وما حملته من أصداء كبيرة من خلال تنظيمه لمسابقة الأندية العربية الأبطال على كأس زايد.
في عمله يسعى آل الشيخ لتنظيم الأحداث الرياضية العالمية الكبرى في السعودية، فالمملكة بحجمها السياسي والاقتصادي ومكانتها الجغرافية والثقافية، قادرة على أن تكون واحدة من مراكز صناعة الاقتصاد الرياضي وترويج منتجاته بصورة تخدم مشروعها الحضاري الطموح الذي تضمنته رؤية 2030.
ولآل الشيخ اهتمام بالشعر، وخاصة الغنائي منه، حيث غنى من كلماته مشاهير العالم العربي، مثل محمد عبده وكاظم الساهر وماجد المهندس وعبدالمجيد عبدالله ورابح صقر وأمال ماهر وأصالة وأنغام وعمرو دياب.
صنّف كأفضل شاعر في استفتاء أجرته شبكة «إم.بي.سي“ التي أعلنت إذاعتها اختياره على مستوى الخليج في العام 2018، وحصل أيضا على جائزة أفضل شاعر في العالم العربي في استفتاء مجلة “دير جيست” متفوقا على الكثير من شعراء الأغنية المحترفين في المنطقة العربية.
حركة التغيير
باتت حركة الترفيه في السعودية دينامو الرؤية العامة للعام 2030 وواجهتها الثقافية والحضارية والفلسفية العامة ضمن مؤشرات اقتصادية واجتماعية بأجنحة متعددة الأبعاد بين ما هو فني واحتفالي ورياضي وسياحي وإعلامي واستعراضي وتنشيطي وترويجي لثقافة حب الحياة والانفتاح على العصر والعالم، وهو ما يعتبر أساسا علميا وعمليا لإعادة تأسيس الواقع في بلد يشهد حركة إصلاحية غير مسبوقة إقليميا ودوليا من حيث فلسفتها وجرأتها وفاعليتها وتعدد وتنوع امتداداتها ونتائجها.
كما تحولت مناسبات الترفيه في المملكة إلى فرص لتكريم الرواد من المبدعين واحتضان المواهب وتخليد الراحلين واستقبال النجوم العرب والإقليميين لإنتاج الوجه المشرق للحياة بروح تفاؤلية وبكثير من توطيد العلاقة مع أصالة الانتماء إلى جذور الاعتدال في الثقافة الشعبية الأصيلة قبل إخضاعها لضغوط الفهم المتشدد للدين، وهو ما أعاد للمرأة علاقتها الإيجابية مع المحيط الاجتماعي والثقافي، وفسح أمام الشباب مجالا واسعا للاندماج ضمن مشروع حضاري جديد.
صناعة الترفيه التي انطلقت بقوة في السعودية، باتت بمثابة استفتاء شعبي غير معلن عن موقف السعوديين من ثورة الإصلاح الهادئة التي أطلقها ولي العهد السعودي، حيث يتبين الدعم الواسع الذي تلقاه تلك الصناعة كمرآة تعكس تحولا مجتمعيا استثنائيا باتجاه تتويج رؤية 2030 التي تهدف إلى أن تجعل من السعودية بلدا قويا ومتطورا وعصريا ومفتوحا على مستقبله بقدرة فائقة على التعامل مع آليات العصر وأدوات التنمية المستدامة.
*العرب