عبدالله بشارة: نواعم الأحكام.. ومضايقات الجغرافيا
لا يوجد في الكويت ما اعتادت عليه الدول في المسح الدوري لمواقف الرأي العام الكويتي حول الواقع الحالي، الذي تعيشه الكويت لنكتشف منه مؤشراً لأحكام شعبية عن البيئة البرلمانية السياسية التي يعيش فيها مجلس الأمة، برئيسه ونوابه وإعلامه، وعن قضايا أخرى في نهج عرفناه من الدول البرلمانية، وعندي شعور بأن مزاج الرأي العام الكويتي سيشخص الحالة بتذمر من الضبابية السياسية المحيرة والمربكة، التي تتسيد الفضاء الكويتي، وبمزاج ليس بعيداً عن الأيام العصيبة التي عشناها قبل الغزو اللئيم في اغسطس 1990.
لكن مميزات هذا الزمن تختلف عن الماضي، فعلى الأقل يعتقد الشعب الكويتي أننا تخلصنا من الاعتماد على نواعم الآليات كحلول للأزمات بعد أن استوعبنا بعضاً من دروس الغزو، وأقوى دليل في التبدلات الكويتية ما نتابعه عن الترابط الاستراتيجي الأمني مع الحلفاء والأصدقاء الذين يتواجدون بجوار مواقع الأخطار، في مؤشر على أننا ودعنا، بلا رجعة، الإيمان بقوة الحق كبديل عن الاستنجاد بحق القوة، وأن مضايقات الجغرافيا التي استنزفت الكثير من طاقة الكويت لا تزول بمنطق النعومة وبوسائلها، ولا تختفي بواسطة لجان متخصصة تشغل الناس وتوفر الوقت لأصحاب النوايا التوسعية، وهي تجربة عشناها لأكثر من ثلاثة عقود، كما لم يعد لنا معدة تهضم مصطلحات غامضة لها إيقاع موسيقي لكنها مايعة، مثل ما نقرأه دائماً عن تحصين الجدار العربي من اختراقات الأجنبي، ومعناها واضح ومقاصدها استمرار الهشاشة في الردع الكويتي والخليجي، وسلب حقه في تأمين آليات الدفاع، وما زلنا، رغم الغزو ومآسيه، نتسلم تلقينات عن الأمن القومي العربي، الذي تبعثر مع الغزو، ونردد أبعاده في الحفاظ على سلامة الأمة، بينما المخاطر تتولد من طموحات أنظمة البطش التي جاءت بقوة السلاح وبتدبير التآمر، وليس من خيارات إرادة شعبية حرة، خاصة إذا ترافق التآمر مع أيديولوجيات حزبية تحملها أوهام الوحدة، كما تمثل في نظام البعث العراقي المتعجرف.
ربما أستنجد بما قاله صدام حسين عن عرب الخليج واستخفافه بهويتهم وتحقيره لقيمهم، وذلك وفق ما جاء في كتاب «أشرطة تسجيل صدام»، الذي أصدره الأميركي كيفن أم وودز، الذي نقلته القوات الأميركية إلى مخازنها في البنتاغون، وهي تسجيلات لاجتماعات الرئيس العراقي وكبار مساعديه من قيادات الحزب والجيش، وينقل وقائع الاجتماع الذي عقد في نوفمبر عام 1979، قبل الحرب العراقية ــ الإيرانية، حيث يستعرض صدام حسين العلاقات المتوترة مع إيران، متناولاً دول الخليج، ومبلغاً الحاضرين بأن «عرب الخليج لا يتغيرون، ليكن الله في عوننا، إنهم عرب الانحلال، عرب العار، عرب قيمهم تناقض جميع القيم المعروفة في السماء والأرض، ذبحهم سيكون نعمة قربانية، عملاً عظيماً بسبب الفساد والانحلال، من المفيد أن نتخلص من حاكم الكويت، لكن إذا أزاح أحدهم حاكم الكويت، عليه أن يكون قادراً على حماية مصلحة شعبه وحماية هويته العربية، وإذا لم تكن لدينا هذه الخطة، عندئذ نكون ضد أي تغيير».
هذا الكلام ترجمة حقيقية لمساعيه اللاحقة، وجاء بعد سنوات عندما توافرت آليات التنفيذ، لكنه لم يدرك موقع المهالك التي جاءت من أحلامه..
في كتاب «في مرمى النيران»، الذي أصدره سفير العراق في القاهرة «نبيل نجم» خلال فترة الغزو، يدون فيه كل الاتصالات التي تمت بين الرئيس حسني مبارك والرئيس العراقي السابق صدام حسين، وهو كتاب طافح بالتعبيرات البعثية، جاءت في رسائل صدام حسين في تواصله مع رئيس مصر، ويراها كقاعدة يبنى عليها التوافق العربي بعد فتح صفحة جديدة فيها التعالي على الجروح والتخلص من قبضة الماضي، كما يتضمن الكتاب أيضاً الرسائل الشفهية بين الرئيسين، وهي كثيرة، بسبب حرص الرئيس حسني مبارك على حماية العراق من مبررات ضربات الصواريخ الأميركية، خاصة في خلافات العراق مع لجنة المفتشين لنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتوظيف العراق جميع الحيل للهروب من قبضة هؤلاء الذين يطلق عليهم صدام حسين جواسيس الإمبريالية.
من تلك الأجواء التي تكاثرت فيها جهود الرئيس حسني مبارك لتأمين سلامة العراق، جاءت صرخة الجامعة العربية القوية للمصارحة والمصالحة، وبدعم قوي من الرئيس حسني مبارك، وبتأييد من صدام حسين الباحث عن أي غطاء للهروب من عقوبات وشروط مجلس الأمن.
كان الأمين العام للجامعة العربية الذي حمل رسالة المصارحة والمصالحة هو المرحوم عصمت عبدالمجيد، الذي كان وزيراً للخارجية المصرية، وأصبح أميناً عاماً للجامعة العربية بعد عودتها إلى مصر، وأعرف الدكتور عصمت من نيويورك، حيث كان زميلي كمندوب دائم لمصر في الأمم المتحدة، وكان خير الرجال في الأخلاق وأصدقهم في العمل وأفضلهم في التعامل، واستغل هذه المواصفات لتلميع عنوان المصارحة والمصالحة، لكن المصدات والتعقيدات كثيرة وكبيرة، فلا توجد ألفة بين منظومة التعامل الدبلوماسي الخليجي والأيديولوجية البعثية الخشنة في السلوك والحالمة في الأهداف، ولم يستوعب نظام صدام البعثي التحولات التي شهدتها دبلوماسية الخليج، فظل يكرر الفزع من الإمبريالية الذي ضخم المخاوف العراقية بعد أن تواجدت القوة الأميركية على رمال الصحراء، بعد أن امتثلت الدبلوماسية الكويتية المستجدة لمتطلبات وشروط نادي الردع العالمي، متجسداً في الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ومع بريطانيا، مع إضافات باتفافيات مع فرنسا وتفاهمات مع الصين وروسيا.
كما هضمت الدبلوماسية الكويتية الحقائق البشعة في الفضاء الدبلوماسي العالمي، فلم نكن على علم بأن هناك طاقة بشرية تغمض عيونها عن الظلم وتتعايش معه رغم التزاماتها الأدبية في التصدي له، كانت صدمتنا من المواقف العربية، حيث فشلت إحدى عشرة دولة من أعضاء الجامعة في إدانة العدوان، كان التقصير فينا في إخفاقنا بأن الصداقات بعضها متين وفي للزمالة، وبعضها أصدقاء المنافع، وهم لا يفيدون عند الشدة وقد يسيئون.
كان الغزو صحوة دبلوماسية كويتية خرجت من بطن مأساة الغزو، ومن منظر التيهان العربي ومن حزم قرار الإنقاذ العالمي، وهذه الصحوة في الحقيقة ليست كويتية فقط وإنما خليجية، عربية، عالمية أيضاً، فمن يتفحص موسوعة الغزو، يتوقف عند هذه السمات التي كانت اكتشافات بالنسبة لنا في الكويت، لأن عنواننا السابق كان الكويت بلاد العرب، ويمكن التذكير بأن هزيمة 1967 وتسابق الفلسطينيين إلى الكويت هروباً من الضفة الغربية أيام الحرب، كانا الفاعل المؤثر في إغفال بوابة الكويت المفتوحة، وتعزّز ذلك بالغزو، وتجذرت من حالة السندروم التي خلفها الغزو Invasion Syndrome، ومن هذا التسلسل أصل إلى سؤال استراتيجي مصيري عن آليات اتخاذ القرار في الكويت، فلا أنكر بأن قرارات الكويت قبيل الغزو كانت محمولة بثقة كبيرة في مساعي الوساطات، ولم نستغل تلك الفترة التي قضاها الرئيس حسني مبارك متنقلاً، للاستفادة من نقل معاناتنا إلى البيوت الجاهزة للمساعدة من شركاء المصالح الذين كانوا يتوقعون قرع أبوابهم، وهذا ما مارسته دولة خليجية، وكان وزير خارجيتها صريحاً في اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون الطارئ، الذي انعقد قبل أسبوع من الغزو، ناصحاً المرحوم الشيخ صباح الأحمد النائب الأول آنذاك بمناورة مع واشنطن.
وسجل التاريخ علينا بطء الحركة وتجاهل الحذر وارتباك المسار.
هذه الرواية للتاريخ، نحن الآن في حالة ضياع ليست بعيدة من ذلك الزمن، حيث يغيب عنها الوضوح، فسلوك مجلس الأمة مخالف للتوقعات وصدمة للآمال وانخفاض في الثقة، لأن أولويات المجلس إسقاط الرئيس وإرباك رئيس الوزراء وتصويب المساءلات نحو الوزراء، وليس في الفضاء ما يوحي بتجاوز المطبات، وأخطر ما نخاف منه أن تدخل الكويت فصلاً يضيع فيه القرار الصحي، وتتحول الكويت إلى دولة بلا قرار، خوفاً من المجهول وتداعياته.