رأي في الحدث

جعفــرعبــاس : عندما داس أبي على جني

لو‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أتباهى‭ ‬بأمر‭ ‬يخصني‭ ‬فهو‭ ‬أنني‭ ‬ومنذ‭ ‬سن‭ ‬مبكرة‭ ‬كنت‭ ‬رافضا‭ ‬للشعوذة‭ ‬والدجل،‭ ‬وقد‭ ‬فتح‭ ‬جيلنا‭ ‬عيونه‭ ‬وآذانه‭ ‬وعقوله،‭ ‬ولا‭ ‬حديث‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬سوى‭ ‬الاستقلال‭ ‬والاستعمار‭ ‬والانتخابات،‭ ‬وكان‭ ‬أهل‭ ‬منطقتنا‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬يدينون‭ ‬بالولاء‭ ‬لطائفة‭ ‬الختمية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬السيد‭ ‬علي‭ ‬الميرغني،‭ ‬الذي‭ ‬يقال‭ ‬إنه‭ ‬من‭ ‬أحفاد‭ ‬الرسول‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ (‬جده‭ ‬الكبير‭ ‬جاء‭ ‬الى‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الحجاز‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭) ‬وطبعاً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وارداً‭ ‬أن‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬في‭ ‬دائرتنا‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬يزكيه‭ ‬‮«‬السيد‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المنطقة‭ ‬الذين‭ ‬يستغلون‭ ‬اسم‭ ‬الميرغني‭ ‬لاكتساب‭ ‬مكانة‭ ‬اجتماعية‭ ‬ودينية،‭ ‬ويقضون‭ ‬حوائجهم‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬سيدي‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هؤلاء‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬فئة‭ ‬يتسمى‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬بـ«شيخ‮»‬‭ ‬يتبرك‭ ‬بها‭ ‬الناس،‭ ‬وكانت‭ ‬أسهل‭ ‬وسيلة‭ ‬لإقناع‭ ‬الناس‭ ‬بأنهم‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الخوارق‭ ‬هي‭ ‬ادعاء‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬علة‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬يلجأون‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬الجن‭: ‬تصاب‭ ‬بتسمم‭ ‬نتيجة‭ ‬تناول‭ ‬فسيخ‭ ‬عثرت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مغارة‭ ‬فرعونية‭ ‬فيقول‭ ‬لك‭ ‬‮«‬المبروك‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الجن‭ ‬بصقت‭ ‬على‭ ‬الطعام،‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬إجراءات‭ ‬معينة‭ ‬لإقناعهم‭ ‬بإبطال‭ ‬مفعول‭ ‬بصاقهم‭! ‬يردد‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬كلمات‭ ‬وعبارات‭ ‬مبهمة‭ ‬ويذكر‭ ‬اسم‭ ‬الله‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ ‬ثم‭ ‬يبصق‭ ‬على‭ ‬الشيء‭ ‬المسكون‭ ‬بالشياطين،‭ ‬فتهرب‭ ‬الشياطين‭ ‬فزعا‭ ‬وتطلب‭ ‬اللجوء‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬آدمي‭.‬

ذات‭ ‬مرة‭ ‬عدت‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬خميس‭ ‬لقضاء‭ ‬عطلة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬مع‭ ‬الأهل،‭ ‬وللقاء‭ ‬أبي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬بلدتنا‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الأوسط،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬ممدد‭ ‬على‭ ‬سرير،‭ ‬لا‭ ‬يتحرك‭ ‬ولا‭ ‬يتكلم،‭ ‬ولما‭ ‬رآني‭ ‬دمعت‭ ‬عيناه‭ ‬فأجهشت‭ ‬بالبكاء‭ ‬وارتميت‭ ‬فوقه‭ ‬لأنني‭ ‬حسبته‭ ‬في‭ ‬سكرات‭ ‬الموت،‭ ‬فسحبني‭ ‬رجل‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬‮«‬المبروكين‮»‬‭ ‬بقوة‭ ‬وأبعدني‭ ‬من‭ ‬أبي،‭ ‬وقال‭ ‬ما‭ ‬معناه‭ ‬أن‭ ‬الشيطان‭ ‬سينتقل‭ ‬إليَّ‭ ‬من‭ ‬أبي‭! ‬كيف؟‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬أبي‭ ‬فقد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬وأن‭ ‬الشلل‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬منه‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬داس‭ ‬على‭ ‬جني‭ ‬صغير‭ ‬فعاقبته‭ ‬ماما‭ ‬الجني‭ ‬بشل‭ ‬حركته،‭ ‬وكان‭ ‬بيد‭ ‬الرجل‭ ‬صحن‭ ‬أبيض‭ ‬قام‭ ‬بتقسيمه‭ ‬إلى‭ ‬مربعات‭ ‬ورسم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مربع‭ ‬شكلاً‭ ‬هندسياً‭ ‬عشوائياً‭ ‬مصحوباً‭ ‬بكلمات‭ ‬بلا‭ ‬معنى‭ ‬مثل‭ ‬تيخ‭ ‬روش‭ ‬بكشروط‭ ‬ملبوط،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬ببعض‭ ‬الماء‭ ‬وغسل‭ ‬تلك‭ ‬المربعات‭ ‬وما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬كلمات،‭ ‬وطلب‭ ‬ملعقة‭ ‬ليسقي‭ ‬الوالد‭ ‬تلك‭ ‬‮«‬الخُلاصة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬زعم‭ ‬أنها‭ ‬ستبطل‭ ‬مفعول‭ ‬الجنية‭ ‬الكبيرة‭ ‬الغاضبة‭ ‬لأن‭ ‬والدي‭ ‬داس‭ ‬البيبي‭ ‬المدلل‭ ‬والأثير‭ ‬عندها‭. ‬انتزعت‭ ‬الصحن‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬الرجل‭ ‬والقيت‭ ‬به‭ ‬بعيداً،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتتني‭ ‬الشجاعة‭ ‬لأفعل‭ ‬ذلك‭ ‬وأنا‭ ‬ابن‭ ‬مجتمع‭ ‬كلام‭ ‬الشخص‭ ‬الكبير‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬ماشي‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬خطأ،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬عنده‭ ‬خدم‭ ‬وحشم‭ ‬من‭ ‬الجن؟‭ ‬انهالت‭ ‬عليّ‭ ‬الصفعات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب‭ ‬وصرخت‭ ‬أمي‭ ‬مولولة‭ ‬لأنها‭ ‬‮«‬أدركت‮»‬‭ ‬أن‭ ‬غضب‭ ‬الجن‭ ‬وصاحب‭ ‬الجن‭ ‬سيصيبني‭ ‬أيضاً‭ ‬بالشلل‭! ‬ثم‭ ‬جروني‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬وأغلقوا‭ ‬بابها‭ ‬عليّ‭ ‬بينما‭ ‬أمي‭ ‬تناشد‭ ‬الرجل‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعه‭ ‬كي‭ ‬يقنع‭ ‬الجن‭ ‬بأن‭ ‬يسامحوني‭! ‬كنت‭ ‬على‭ ‬حداثة‭ ‬سني‭ ‬واقعاً‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬طلاب‭ ‬أزهريين‭ ‬من‭ ‬بلدتنا‭ ‬كانوا‭ ‬يتهكمون‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يسمونهم‭ ‬بالمشعوذين‭ ‬والدجالين‭ ‬بينما‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البلدة‭ ‬يسميهم‭ ‬‮«‬أصحاب‭ ‬البركات‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬مساء‭ ‬الجمعة‭ ‬أفرجوا‭ ‬عني‭ ‬كي‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬مساكنها‭ ‬‮«‬الداخلية‮»‬،‭ ‬فرفضت‭: ‬لن‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬نقل‭ ‬أبي‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى،‭ ‬وكانت‭ ‬دهشة‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬هز‭ ‬رأسه‭ ‬موافقاً‭ ‬على‭ ‬كلامي،‭ ‬وتأكد‭ ‬لهم‭ ‬أنه‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬مقابلة‭ ‬طبيب،‭ ‬وهكذا‭ ‬تم‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬عن‭ ‬بلدتنا‭ ‬مئات‭ ‬الكيلومترات‭ ‬حيث‭ ‬عالجه‭ ‬الطبيب‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الجلطة‭ ‬التي‭ ‬سببت‭ ‬له‭ ‬الشلل،‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬معافى‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة‭ ‬ثم‭ ‬غادر‭ ‬بلدتنا‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬إليها‭ ‬قط،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬أكملت‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬حتى‭ ‬نقل‭ ‬العائلة‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬البلدة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬الجن‭ ‬صغارها‭ ‬يلعبون‭ ‬في‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق،‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى