رأي في الحدث

عبد الله المدني : قصة عوض الدوخي وأغنية «قل للمليحة»

في ستينات القرن العشرين، غنّى الفنان الكويتي عوض الدوخي «قل للمليحة»، من ألحان أحمد الزنجباري، التي حققت نجاحاً وشهرة واسعين. ويبدو أن الدوخي أراد أن يميّز أغنيته هذه عن شبيهاتها بأصوات صباح فخري وناظم الغزالي والمنشد المصري علي الهلباوي، فلم يعتمد نصها الأصلي الذي كتبه الشاعر ربيعة بن عامر بن أنيف الدارمي التميمي الملقب بـ «مسكين الدارمي» (ت: 90 هـ)، وهو أحد شعراء العصر الأموي الأول. ففي النص الأصلي قال الدارمي:

قل للمليحة في الخمار الأسود

                 ماذا فعلت بناسك متعبد

قد كان شمر للصلاة ثيابه

                 حتى خطرت له بباب المسجد

فسلبت منه دينه ويقينه

                 وتركته في حيرة لا يهتدي

ردي عليه صلاته وصيامه

                 لا تقتليه بحق دين محمد

بينما نجد أن النص الذي غناه الدوخي كتبه الشاعر والأديب منتجب الملك محمد بن ارسلان (ت: 534هـ) معارضاً الدارمي فقال:

قل للمليحة في الخمار الأحمر

                 لا تجهري بدمائنا وتستري

مكنت من حب القلوب ولاية

                 فملكتها بتعسف وتجبر

إن تنصفي فلك القلوب رعية

                 أو تمنعي حقاً فمن ذا يجتري؟

سخرتني وسحرتني بنوافث

                 فترفقي بمسخر ومسحر

والحقيقة أن شعراء كثر تغنوا بخمار المرأة كونه يزيدها جمالاً فوق جمال، لكنهم اختلفوا في اللون، فمنهم من تغنى بالخمار الأسود كالدارمي ومنهم من تغنى بالخمار الأحمر كابن رسلان، وهناك من تغنى بالخمار الأكحل مثل الشاعر العباسي أبو الفتح محمود بن حسين بن سندي الملقب بكشاجم (ت: 360 هـ) في قوله: (قل للمليحة في الخمار الأكحل/‏‏‏ كالشمس من خلل الغمام المنجلي/‏‏‏ بحياة حسنك أحسني وبحق من/‏‏‏ جعل الجمال عليك وقفاً أجملي/‏‏‏ لا تقبلي قول الوشاة فإنني/‏‏‏ لم أصغ فيك إلى مقال العذل/‏‏‏). وهناك من تغنى بالخمار المذهب مثل القاضي التنوخي الحسن بن علي بن محمد (ت: 384هـ) في قوله: (قل للمليحة في الخمار المذهب/‏‏‏ ذهب الزمان وحبكم لم يذهب/‏‏‏ وجمعت بين المذهبين فلم يكن/‏‏‏ للحسن في ذهبيهما من مذهب/‏‏‏ نور الخمار ونور وجهك نزهة/‏‏‏ عجباً لخدك كيف لم يلتهب/‏‏‏ وإذا بدت عين لتسرق نظرة/‏‏‏ قال الجمال لها: اذهبي لا تذهبي)، علاوة على الشاعر الخوارزمي أبو عبدالله الحامدي الذي تغنى بالخمار المشمشي فقال: قل للمليحة في الخمار المشمشي/‏‏‏ كم ذا الدلال عدمت كل متحرش/‏‏‏ يا من غدا قلبي كنرجس طرفها/‏‏‏ في الحب لا صاح، ولا هو منتش. ناهيك عن الشاعر الحجازي المعاصر محمد العيد الخطراوي (ت: 2012) الذي فتن بالخمار الأزرق فقال: قل للمليحة في الخمار الأزرق/‏‏‏ ماذا فعلت بناسك مستغرق/‏‏‏ قد كان شمر للصلاة ثيابه/‏‏‏حتى وقفت له بكل تألق.

كتب الباحث السوري محمد عيد الخربوطلي ما مفاده، أن شعراء كثر آخرين استندوا إلى قصيدة الدارمي فعبروا عن مشاعرهم تجاه من افتتنوا بجمالهن من خلال ملابس أخرى غير الخمار، مثل الشاعر علي خان ميرزا الشهير بابن معصوم الذي استبدل الخمار بالقباء (ما تتمنطق به النساء)، والشاعر الأحسائي أحمد بن علي الوهيبي الذي استبدل الخمار بالقميص، والشاعر المهجري إلياس طعمة الذي استبدل الخمار بثوب الحرير الأحمر.

وبالعودة إلى القصيدة الأصلية للدارمي نجد أن وراءها قصة ذكرها الأصفهاني في كتاب الأغاني ومفادها، أن تاجراً من الكوفة جاء إلى المدينة المنورة ليبيع أنواعاً من الخمر النسائية الملونة، فباعها كلها إلا ذوات اللون الأسود، فدله الناس على الدارمي وقالوا له إنه محبوب عند أهل المدينة من الرجال والنساء، ولو قال أبياتاً في الخمار الأسود لاشترت النساء كل بضاعته، فذهب إلى الدارمي وتوسل إليه أن يقول أبياتاً في الخمار الأسود، فوافق حباً منه في مساعدة هذا التاجر الغريب رغم أنه كان وقتها قد عزف عن الشعر والغناء وتنسك، وقال أبياته التي انتشرت في المدينة بين النساء فأقبلن على التاجر واشترين كل ما عنده من أخمرة سوداء، ثم عاد الدارمي إلى ما كان عليه من عبادة ونسك، رافضاً أخذ مقابل لعمله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى