جعفــرعبـــاس : ابن عاق وزوج ضميره معاق
سامحوني لأنني أحيانا أخرج عن مألوف «زاويتي» هذه، وأعرض فيها أمورا تثير الغم، فقل معي: لا حول ولا قوة إلا بالله. واقرأ حكاية رجل مسلم تجاوز السبعين شكا ابنه للقضاء ووقف أمام المحكمة ليقول إنه طاعن في السن، وليس لديه من الذرية سوى ذلك الابن ولكنه لا ينفق عليه، وعند مثول الابن أمام المحكمة أحتضنه الأب باكيا: لا أريد منك مليما واحدا، يكفيني أنني رأيتك قبل أن أموت.. يا سيدي القاضي أنا رجل ميسور الحال، ولا حاجة بي إلى نقود ولدي، وكل ما هناك هو أنني لم أره طوال عشر سنوات، واتصلت به مرارا عبر الهاتف والرسائل البريدية والوسطاء، كي أراه قبل أن أموت، ولما لم أجد منه استجابة، لجأت إلى حيلة طلب نفقة منه كي يتسنى لي رؤيته ولو مرة واحدة في المحكمة.
دمعت عينا القاضي وبكى حاجب المحكمة وكل من شهد تلك الواقعة، وبموجب القانون فقدً شطب القاضي القضية وهو يهز رأسه، ليس استنكارا لمسلك الابن الشائن الذي قاطع أباه الكهل، ولكن لأن القانون حمار ولا يسمح له بسجن ذلك الابن العاق، أو على الأقل أن يصفعه أو يبصق على وجهه القميء. الإنسان السوي قد يتكبد مشاق ونفقات السفر لرؤية صديق أو زميل دراسة أو عمل لم يره مدة طويلة، ورمت به الأقدار في قارة أخرى، فما بالك بأناس ينسون أمر أمهاتهم وآبائهم، ولا يكلفون أنفسهم ولو عناء الاتصال الهاتفي بهم بين الحين والآخر للاطمئنان عليهم؟ أي نوع من البشر هذا الذي يقطع وشائج الدم والرحم وهو غير مطالب بأكثر من التواصل والسؤال عن الحال؟.
وإليكم حكاية السيدة الألمانية ماريا برنر التي تكسب قوت أسرتها بالعمل في مجال النظافة، أي تكنس المكاتب والمراحيض في المكاتب، ثم تعود إلى البيت لتعد طعام الزوج والعيال الثلاثة، ثم تنظف البيت وتغسل الملابس وتكويها. كل هذا وزوجها عاطل لا يعمل، ليس لعدم وجود فرص عمل بل لأنه من النوع المتيم بنانسي عجرم (النسخة الألمانية) ويظل يواصل الليل بالنهار يحملق في شاشة التلفزيون، متنقلا من محطة إلى أخرى وحوله أطباق الفشار والمكسرات التي يأكل منها ويرمي القشور يمنة ويسرة، وهو يعرف أن الزوجة ستتولى عملية جمع النفايات التي يرمي بها أرضا.
والإنسان الذي يوصف بالعاميتين السودانية والمصرية بـ«اللطخ»، هو ضعيف الهمة، وعديم الذوق والإحساس، ولا تهمه مشاعر الآخرين كثيراً، والسيد برنر لم يكن يكتفي بالعيش «أونطة» على حساب زوجته، بل كان يقود سيارتها للتنزه أو الذهاب إلى الحانة لشرب البيرة ليزداد لطاخة، وذات مرة أوقف سيارة زوجته «في الممنوع»، ففرضت عليه شرطة غرامة تقدر بنحو 70 دولارا، وطبعاً في ألمانيا لا تستطيع أن تلغي الغرامة لأنك ولد فلان، أو لأن وظيفتك خطيرة، وتفادياً للنقنقة قام الرجل بالتكتم على أمر الغرامة، فظلت تتضاعف قيمتها حتى بلغت قرابة 4000 دولار بمرور الزمان، ولأن السيارة مسجلة باسم الزوجة ماريا فقد ظلت الشرطة تلاحقها وتطالبها بسداد الغرامة التراكمية، ولكنها حلفت بالطلاق ألا تدفع مليماً أحمر، قالوا لها: يا بنت الناس الحكومة لن تتنازل عن حقها، وستذهبين إلى السجن إذا لم تدفعي الغرامة، ففاجأت ماريا الشرطة بقولها: السجن أحب إلي من الجلوس مع هذا الزوج الخرنق اللطخ البارد، وهكذا أتت الشرطة لاقتيادها إلى السجن فخرجت إليهم في أجمل مظهر، هاشة باشة، وخرج الجيران يستطلعون أمر جارتهم الطيبة التي داهمت الشرطة بيتها فإذا بها تلوح لهم بيديها وتصيح: باركوا لي، رايحة السجن 3 أشهر.. لا غسيل، لا طبخ، لا بطيخ.. وجبات منتظمة وراحة متواصلة.. ولكن يبدو أن فرحة ماريا بالسجن لن تطول فقد بدأ زوجها في بيع بعض أثاث البيت لسداد الغرامة لإخراجها من السجن! وبالتأكيد فإن المثل المصري القائل ظل راجل ولا ظل حيطة، ليس صحيحاً على الدوام لأن ظل حيطة أفضل ألف مرة من رجل كهذا، والكلب أكثر وفاء من ذلك الابن الذي اضطر أباه إلى اللجوء إلى القضاء لرؤيته.