عبدالله الأيوبي :«الضحايا والمبادئ» في القاموس الأمريكي
لا أعتقد أن أيّا من المسؤولين الأمريكيين يجهل الحقيقة الساطعة عن حالة عدم الرضا العالية والامتعاض الذي تحمله العديد من شعوب العالم تجاه السياسة الأمريكية، إذ تؤكد كل التجارب والوقائع، ليس في المنطقة العربية فقط، وإنما في العديد من دول العالم، هذه الحالة، ذلك أن هذه السياسة تتسم بالتدخلات الأمريكية الفجّة في شؤون العديد من دول العالم، وتسببت في إشعال الحروب التي جاءت كلها على حساب مصالح هذه الشعوب، ولعبت هذه السياسة دورا سلبيا في وقف تقدم العديد من الدول وأعاقت تطورها السياسي والاقتصادي، وأصابتها بالعجز عن تجاوز العديد من المشاكل، التي نشأ جلها بسبب سياسة التدخلات والحروب الأمريكية، بما في ذلك تنفيذها لجرائم غزو عسكري مباشر كما حدث مثلا مع العراق عام 2003، ومن قبله تدخلها العسكري الدموي في فيتنام.
في ظل هذه السياسية العدوانية الصريحة، فإن أي تصريحات أمريكية تتحدث عن القيم وحقوق الإنسان وسيادة الدول والمبادئ التي تحكم علاقات الدول مع بعضها البعض عادة ما تقابل بالاستهجان، وقل ما يمكن وصفها بالانتهازية السياسية، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى استغباء الساسة الأمريكان لعقلية أبناء الشعوب، وخاصة تلك التي اكتوت بنيران التدخلات الأمريكية المباشرة، أو عبر دعمها لسياسة الظلم والاستبداد ومصادرة حقوق الشعوب، كما يحدث مع الشعب الفلسطيني الشقيق.
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في ختام زيارته للجزائر، والتي كان هدفها الأول هو محاولة جرّ الجزائر إلى سياسة الحصار الاقتصادي التي تتبعها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها تجاه روسيا بعد تنفيذ الأخيرة عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، الوزير الأمريكي -من جزائر المليون شهيد- قال في مؤتمر صحفي: «في حالة أوكرانيا خصوصا، المعتدي واضح والضحية واضح، من المهم الوقوف إلى جانب الضحية والوقوف إلى جانب المبادئ التي تم انتهاكها أيضًا»، مضيفا بالقول: «على جميع البلدان في جميع أنحاء العالم أن تهتم بالمبادئ المتعلقة بالسيادة والاستقلال، وأعلم أن هذا شيء يشعر به الجزائريون بقوة في تاريخهم، وأعتقد أن دولا في المنطقة قد شهدت أيضًا الآثار المدمرة للحملات العسكرية الروسية من قبل في سوريا وليبيا».
الوزير الأمريكي يطالب الدول «بالوقوف إلى جانب الضحية»، وأن «تهتم بالمبادئ المتعلقة بالسيادة والاستقلال».. هذه المواقف التي يطلب الوزير من دول المنطقة اتخاذها ليس لها وجود في قاموس السياسة الأمريكية، فجميع الإدارات الأمريكية لها بصمات ثابتة على أجساد ضحايا العدوان والاضطهاد، فالولايات المتحدة الأمريكية هي من أكثر دول العالم انحيازا لسياسة التشريد والاغتصاب التي تمارسها سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» بحق أبناء الشعب الفلسطيني، فهؤلاء ليسوا ضحايا في نظر السياسة الأمريكية! ثم أين كانت مبادئ السيادة والاستقلال، حين نفذت الولايات المتحدة الأمريكية غزوا دمويا لدولة مستقلة ذات سيادة هي العراق، الذي حوله الغزو إلى ساحة دموية تسببت في إزهاق أرواح ما لا يقل عن مليون عراقي، ناهيك عن ملايين المشردين والمهجرين؟!
ما ذكره الوزير الأمريكي من أمثلة كان يمكن تصديقه لو لم تخرج من لسان المسؤول الأمريكي، فحين يتحدث عن «الآثار المدمرة للحملات العسكرية الروسية من قبل في سوريا وليبيا»، يتجاهل الحقيقة التي يعرفها الجميع ولا يتملص منها إلا الانتهازيون، فالذي نفذ غزوا دمويا لليبيا ليست روسيا وإنما حلف شمال الأطلسي «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن سلط الإرهابيين من كافة بقاع العالم على الشعب السوري ليس روسيا، بل أمريكا وحلفاؤها الذين سهلوا تدفق هؤلاء على الأرض السورية ووفروا لهم قنوات التمويل والتسليح التي لم تتوقف، رغم ادعاء واشنطن وحلفائها أنهم «يحاربون» الإرهاب في سوريا.
المواقف التي يطالب الوزير الأمريكي الدول باتخاذها إنما يعني بها الموقف من الأزمة الأوكرانية لا غير، وهذا يؤكد سياسة الكيل بمكيالين، إذ إنه إذا كان مطلوبا الوقوف مع ضحايا الحرب في أوكرانيا فإن هذا الموقف يجب أن تتخذه الولايات المتحدة الأمريكية من ضحايا الاحتلال في فلسطين، وإذا كانت السيادة الأوكرانية مقدسة والمبادئ الدولية يجب أن تصان، فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر دولة مطالبة باتخاذ مواقف احترام وتقديس هذه المبادئ، لأنها باختصار هي الدولة الأكثر انتهاكا لهذه المبادئ على مستوى العالم، وبصمات هذا الانتهاك مطبوعة في العديد من دول القارات الخمس.
التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا ساهم في الكشف عن حقيقة الانتهازية السياسية التي تميز سلوك الدول الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى، فهذه الدول حركت جميع الآليات الاقتصادية والمالية والرياضية والثقافية والفنية في وجه روسيا، في حين لم تحرك آلية واحدة لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية فيما يخص الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولم تحاسب مسؤولا واحدا من أولئك المسؤولين الذين أمروا بغزو العراق وتدميره، سقطت جميع الأوراق.