رأي في الحدث

جعفـــرعبـــاس : إحباط في رأس السنة

قلت‭ ‬مرارا‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬أمورا‭ ‬فرضها‭ ‬علينا‭ ‬‮«‬الاستعمار‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬توقيت‭ ‬غرينتش،‭ ‬وحتى‭ ‬أسماء‭ ‬القارات،‭ ‬ولهذا‭ ‬تجد‭ ‬بحيرة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬أفريقيا‭ ‬اسمها‭ ‬فيكتوريا‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬ملكة‭ ‬بريطانيا‭ (‬1837-1876‭) ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬موجودة‭ ‬منذ‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬السنين‭ ‬ولديها‭ ‬اسم‭ ‬محلي‭ ‬عمره‭ ‬أيضا‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنني‭ ‬مقتنع‭ ‬بأن‭ ‬الأوربيين‭ ‬فرضوا‭ ‬علينا‭ ‬حتى‭ ‬تقسيمات‭ ‬الوقت،‭ ‬ولهذا‭ ‬فلست‭ ‬مقتنعا‭ ‬بأن‭ ‬السنة‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬12‭ ‬شهرا‭ ‬وان‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬ينبغي‭ ‬ان‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬أو‭ ‬31‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬فبراير‭ ‬‮«‬الملطشة‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬قرر‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬اليوم‭ ‬24‭ ‬ساعة‭ ‬وأن‭ ‬تتألف‭ ‬الساعة‭ ‬من‭ ‬60‭ ‬دقيقة،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬مفروضة‭ ‬علينا‭ ‬تماما‭ ‬مثل‭ ‬كروية‭ ‬الأرض،‭ ‬رغم‭ ‬أننا‭ ‬كثيرين‭ ‬منا‭ ‬وفي‭ ‬قرارات‭ ‬أنفسنا‭ ‬نعرف‭ ‬ان‭ ‬كروية‭ ‬الأرض‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬إشاعة‮»‬‭.‬

المهم‭: ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬المنصرم،‭ ‬نصحتني‭ ‬زوجتي‭ ‬بأن‭ ‬أمسح‭ ‬يدي‭ ‬ووجهي‭ ‬بـ«كريم‮»‬‭ ‬أو‭ ‬دهان،‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬قشرة‭ ‬بيضاوية‭ ‬تعلو‭ ‬جلدي،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬تريد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬حليوة‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬عام‭ ‬2022،‭ ‬وبحثت‭ ‬بين‭ ‬أشياء‭ ‬زوجتي‭ ‬عن‭ ‬نيفيا‭ ‬او‭ ‬بريل‭ ‬كريم‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬لهما‭ ‬أثرا‭. ‬فقامت‭ ‬مستاءة‭ ‬ومدت‭ ‬لي‭ ‬أنبوبا‭ ‬مصابا‭ ‬بإنفلونزا،‭ ‬بدليل‭ ‬خروج‭ ‬مادة‭ ‬لزجة‭ ‬ومقرفة‭ ‬من‭ ‬فوهته،‭ ‬ولكن‭ ‬رائحته‭ ‬كانت‭ ‬طيبة،‭ ‬ووقفت‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭ ‬لأتمتع‭ ‬بشكلي‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يلمع‭ ‬بتأثير‭ ‬الكريم‭ ‬المقرف‭ ‬المعطر‭. ‬وصدرت‭ ‬عني‭ ‬صرخة،‭ ‬فقد‭ ‬وجدت‭ ‬أمامي‭ ‬شخصا‭ ‬عجيب‭ ‬الشكل‭ ‬والملامح‭. ‬أمعنت‭ ‬النظر‭ ‬وأدركت‭ ‬أن‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬ينظر‭ ‬إلي‭ ‬عبر‭ ‬المرآة‭ ‬يحمل‭ ‬شبها‭ ‬لجعفر‭ ‬عباس‭. ‬قلت‭ ‬في‭ ‬سري‭: ‬الدوام‭ ‬لله‭ ‬يا‭ ‬ابو‭ ‬الجعافر‭.. ‬يا‭ ‬ما‭ ‬دوخت‭ ‬سعاد‭ ‬حسني‭ ‬وهند‭ ‬رستم،‭ ‬وصرت‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تجعل‭ ‬حتى‭ ‬زكية‭ ‬زكريا‭ (‬هل‭ ‬تذكرون‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬الرمضانية‭) ‬تنفر‭ ‬منك‭!‬

ألقيت‭ ‬بأنبوب‭ ‬الكريم‭ ‬جانبا‭ ‬لأنني‭ ‬أدركت‭ ‬معنى‭ ‬الحكمة‭ ‬القائلة‭ ‬بأن‭ ‬العطار‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬ما‭ ‬أفسده‭ ‬الدهر،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬معنيا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬سوى‭ ‬بأمر‭ ‬ذلك‭ ‬البائس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحدق‭ ‬في‭ ‬وجهي‭ ‬من‭ ‬المرآة‭: ‬حسرة‭ ‬على‭ ‬شبابك‭ ‬يا‭ ‬ابو‭ ‬الجعافر،‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬نفسك‭ ‬طالبا‭ ‬جامعيا،‭ ‬ثم‭ ‬تقول‭ ‬مرآة‭ ‬بايظة‭ ‬إنه‭ ‬راحت‭ ‬عليك‭! ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬أعزي‭ ‬نفسي‭ ‬وأواسيها‭ ‬متذكرا‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬‮«‬أولاد‭ ‬دفعتي‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬صاروا‭ ‬يمشون‭ ‬بالعكاكيز،‭ ‬وبعض‭ ‬زميلات‭ ‬الدراسة‭ ‬اللواتي‭ ‬صرن‭ ‬جدّات‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬وشتمتهن‭ ‬في‭ ‬سري‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى،‭ ‬ثم‭ ‬تذكرت‭ ‬أكبر‭ ‬حماقة‭ ‬ارتكبتها‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وهي‭ ‬أنني‭ ‬عملت‭ ‬بالتدريس،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬البنات‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭. ‬وبين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬تستوقفني‭ ‬بقايا‭ ‬امرأة‭ ‬بصحبتها‭ ‬شابة‭ ‬يانعة‭ ‬وتقول‭ ‬لي‭: ‬أنت‭ ‬أستاذ‭ ‬جعفر؟‭ ‬ما‭ ‬عرفتني؟‭ ‬أنا‭ ‬زبيدة‭.. ‬درستني‭ ‬في‭ ‬زفت‭ ‬الثانوية‭ ‬بنات‭.. ‬ثم‭ ‬تطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أُسلم‭ ‬على‭ ‬بنتها‭ ‬زازا‭ ‬التي‭ ‬تدرس‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭! ‬أود‭ ‬لو‭ ‬أصيح‭ ‬في‭ ‬وجهها‭: ‬لا‭ ‬شفتك‭ ‬ولا‭ ‬أعرفك،‭ ‬وعيب‭ ‬عليكي‭ ‬تعاكسي‭ ‬راجل‭ ‬ما‭ ‬تعرفيه‭! ‬ويا‭ ‬ليت‭ ‬بوتين‭ ‬يطخ‭ ‬بنتك‭ ‬الأوكرانية‭! ‬ولكن‭ ‬مصيبتي‭ ‬هي‭ ‬ان‭ ‬ذاكرتي‭ ‬فوتوغرافية،‭ ‬وأعرف‭ ‬أنني‭ ‬فعلا‭ ‬درستها‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الزفتية‭ ‬بنات،‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬بنتها‭ ‬زازا‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬ويجعلني‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬محبطا،‭ ‬ومتعاطفا‭ ‬مع‭ ‬أقراني‭ ‬الذين‭ ‬يصبغون‭ ‬شعرهم‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تصل‭ ‬بهم‭ ‬الحياة‭ ‬الى‭ ‬نقطة‭ ‬ضربات‭ ‬الجزاء‭ ‬الترجيحية‭! ‬

سأعترف‭ ‬لجيل‭ ‬الشباب‭ ‬بسر‭ ‬خطير‭: ‬لا‭ ‬تفترضوا‭ ‬ان‭ ‬كل‭ ‬كبار‭ ‬السن‭ ‬حكماء‭. ‬شخصيا‭ ‬لا‭ ‬أحس‭ ‬بأنني‭ ‬استحق‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬حكيم‮»‬،‭ ‬لأنني‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أرتكب‭ ‬أخطاء‭ ‬وحماقات‭ ‬طفولية‭. ‬وعندما‭ ‬أقود‭ ‬سيارة‭ ‬فإنني‭ ‬قد‭ ‬أتفوه‭ ‬بعبارات‭ ‬غير‭ ‬لائقة‭ ‬كلما‭ ‬مر‭ ‬بي‭ ‬سائق‭ ‬طائش‭. ‬وأخالط‭ ‬أناسا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬سني‭ ‬وأعجب‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬بعضهم‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬ساذجا‭ ‬ونزقا،‭ ‬طوله‭ ‬طول‭ ‬النخلة‭ ‬وعقله‭ ‬عقل‭ ‬السخلة‭ ‬وهي‭ ‬بيبي‭ ‬المعزة‭. ‬ومعظمهم‭ ‬يسبب‭ ‬لي‭ ‬الكدر،‭ ‬بالشكوى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ويتحدث‭ ‬عن‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬وكأنها‭ ‬إنجاز،‭ ‬وبعضهم‭ ‬صفعته‭ ‬المرآة‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬بي،‭ ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬يقول‭ ‬الدوام‭ ‬لله‭ ‬يعاند‭ ‬ويكابر،‭ ‬ويستخدم‭ ‬الموكيت‭ ‬لإخفاء‭ ‬الصلعة‭ ‬والمساحيق‭ ‬لإخفاء‭ ‬التجاعيد‭. ‬وما‭ ‬هو‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬التصابي‭ ‬بالزواج‭ ‬بشابة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬‮«‬الوكالة‮»‬‭. ‬قليلون‭ ‬هم‭ ‬العقلاء‭ ‬مثلي‭ ‬الذين‭ ‬يفوضون‭ ‬أمرهم‭ ‬لله‭ ‬ويقاطعون‭ ‬المرآة‭ (‬وليس‭ ‬المرأة‭) ‬تفاديا‭ ‬للمناظر‭ ‬المؤذية‭ ‬للروح‭ ‬المعنوية‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى