رأي في الحدث

علي الصراف : قطر واعترافات حمد بن جاسم وطي الصفحة على خير

اكتشاف أن جماعة الإخوان المسلمين لا تصلح لإدارة دولة، من جانب عرابها الأصلي، الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء القطري السابق، تطور مهم ولو جاء متأخرا.

مهم، لأنه يقطع حبل السرة على هذا المشروع الخديج، فيزيل عن رعاته الأوهام، ويساعد في إبعاد شروره. ومتأخر، لأنه لم يبق أحد لم يكتشفه أصلا. وهو ما يجعل “تصريح” الشيخ حمد بن جاسم نوعا من الاعتراف بالخطيئة، أكثر منه اكتشافا أو تقديرا جديدا لواقع الحال.

سوى أن المزعج في هذا الاعتراف هو أن الشيخ بن جاسم قال إنه اكتشف “أن الإخوان وإدارة الرئيس (محمود) مرسي أثناء لقائهم بالأميركان في الدوحة (كانوا) كمستوى أعجز من أن يحكموا دولة بحجم مصر وبالكثير يديروا دكان”.

والأسئلة التي تواجه هذا “الاكتشاف”، هي: لماذا إذن ظلت قطر تدعم دولة الإخوان، بما أن الاكتشاف كان مبكرا إلى ذلك الحد؟ ألم يكن من الواجب الاكتفاء بمساعدتهم في فتح دكان ليسترزقوا منه بدلا من دعمهم لإدارة دولة؟ ولماذا ظلت قطر تدعم أطرافا إخوانية أخرى في تونس وليبيا إلى يوم الناس هذا؟ ولماذا ظلت تتصرف كبوق دعائي للعمل لصالحهم، وللتشهير بالذين يحاولون استرداد الدولة من “الدكانجي” الذي يتمسك برغبته في اختطافها؟

حسنٌ أن يعي السياسي أخطاءه، ولكنْ حسنٌ أكثر، أن يدفع ثمنها أيضا، لاسيما وأن تلك الخطيئة كان لها ما بعدها، ولاسيما وأنها استهلكت أرواحا ما كان يجب أن تسقط ضحية للوهم أو ما تبعها من جرائم، وأنها هدمت اقتصادات ما كان من الضروري أن تتهدم.

الشيخ حمد بن جاسم يقدم اعترافات في محاولة لتطهير أذيال ثوبه، ولكن غيره ممن شاركه الخطيئة لم يفعل بعد. ربما لأنه يخجل منها، وربما لأنه يترفع عن الاعتراف بالخطأ، وربما لأنه أوكل للشيخ بن جاسم أن يتكفل بالسعي لطي الصفحة

.*متى تدفع قطر ثمن دعمها للإخوان؟

ولكن، لا بأس. لا توجد مشكلة. لقد دفعت هذه الأمة من الدماء وعرفت من الرزايا ما ظل يُبكي الأيتام والثكالى، بينما ظل قادة المصيبة ينعمون برفاهية إدارة اللعبة والتبرؤ من أكلافها بعدما ثبت أنها لعبة خاسرة.

لا بأس. ففي النهاية، هناك اعتراف جلي بأن مشروع التخريب القطري لتمزيق دول المنطقة، وإعادتها إلى العصر الحجري، وتفكيك هوياتها الوطنية إلى هويات طائفية وقبلية، لم يعد صالحا، وبات من الأولى أن تكف قطر، بموجب هذا الاعتراف نفسه، عن الركض وراء مراكز التخريب التي تشرف عليها وكالة المخابرات المركزية، سواء كانت تسمى “مراكز أبحاث” أو براميل تفكير (ثنك تانكس)، بينما هي لا أكثر من براميل قمامة، لثقافة عنصرية وأطماع استعمارية.

التخلي عن الركض وراء وكالة المخابرات المركزية و”مفكريها” هو الخطوة الأولى الصحيحة في الاتجاه المطلوب.

ليس كل ما يقوله الأميركيون بأحقادهم، يجب أن نتبعه. مقدار من الوعي لأبعاد المخطط وعواقبه، يظل مفيدا لتوفير الحصانة للنفس على الأقل.

محاولة هدم الهويات واستبدالها ليس مجرد “عمل نظري” من أعمال إعادة تشكيل المجتمعات أو ردها إلى أصولها لبناء أنظمة جديدة على أنقاضها. هذا عمل يعني مجازر. إنه يعني وضع أي بلد يقع ضحيته في مسار للخراب يشبه إلقاء قنبلة نووية عليه ليتهدم كل شيء فيه، وتتمزق روابطه وتنهار مؤسسات إدارته، وتفشل خدماته، ويتحول الفساد والجريمة ليكونا سبيل البقاء الوحيد. ويصبح الإرهاب تحصيل حاصل.

مشروع الإخوان، هو هذا. لا شيء أكثر منه. وهو نفسه المشروع الطائفي الذي تقوده إيران. وفي الواقع فإنهما صنوان. فلا تستغرب أن يكونا حليفين. لأنهما ينهلان من منبع نظري واحد، غايته التفكيك وإعادة التركيب على هويات جديدة.

قادت قطر المشروع الإخواني تحت ستار كثيف من التضليل الديمقراطي والتعددية والدفاع عن الحريات. ولا شيء من هذا، ولا ذاك، كان يعني أو يفهم ما يقول. لا الإخوان لهم علاقة بالديمقراطية، ولا الديمقراطية لها علاقة بقطر.

نموذج النظام في قطر يستحق تحليلا، للنظر في مفاصله. وهو مفيد لقطر. لا مبرر لأي جدال في جدواه بين أهله وفي ظل طبيعة تكوين البلاد الاجتماعي وتاريخها. إنه، بمعنى من المعاني، نظام أصيل، وفعال. وقد أثبتت إدارة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أنه قابل للتطوير أيضا، ويحظى برضا عريض. ولكنه غير ديمقراطي. ولذلك فلا يجدر به أن يدافع عما ليس من طبيعته هو.

الحال نفسه ينطبق على كل دول المنطقة الأخرى.

الديمقراطية شيء لطيف، ولكنها بالنسبة إلى تاريخنا وطبيعة مجتمعاتنا وثقافتنا، كائن غريب. إنها تاريخ مختلف. وما لم تتوفر لها بنية تحتية صلبة، فإنها لن تكون أكثر من عمل تجريبي مثير للاضطرابات والقلائل والمزاعم.

كل الميليشيات الطائفية التي تقودها إيران في العراق، تؤمن بالديمقراطية. هل هناك فضيحة أفضل من هذه، للكشف عن فضيحة الديمقراطية وفضيحتنا معها؟

الديمقراطية حكاية من حكايات الأطفال، التي يقرأها الكبار، ممن اختاروا أن ينظروا إليها بسذاجة النظرة إلى لوحة من لوحات “الفن الحديث”، لا هم يفهمونها، ولا هي تتحدث عنهم.

ومثل ذلك كل شيء آخر من المفاهيم والمنظومات الفكرية المستوردة.

أقصى ما يمكن أن نذهب إليه، في حدود الثقافة والتكوينات الاجتماعية السائدة في عالمنا العربي، هو العثور على “خليفة عادل”، يحكم وفق قاعدة من قواعد الشورى، ولكنه صارم وشريف وعادل. وبس. كل الباقي هراء.

الإخوان لم يقولوا إنهم ديمقراطيون. وهذا اعتراف، يتعين أن يُحسب لصالحهم. على الأقل لأنهم لم يخدعوا أحدا بزعم الديمقراطية لأنفسهم. وقالوا صراحة إنهم يستخدمون الانتخابات مثل السُلّم، ما أن يرتقوا السلطة به حتى يركلوه. المثير للاستغراب هو أن تتبنى قطر مشروعهم على أساس الديمقراطية.

هذا تبنّ كان أقرب إلى اختلال عقلي، منه إلى أي شيء آخر.

تحويل عبء الإخوان إلى تركيا، ثم دعم تركيا على سواد عيونهم، اختلال عقلي آخر.

ما هكذا تورد الإبل. وما هكذا يكون التخلي.

مع ذلك، ولأن أحدا لا يفترض أن يلاحق قطر بنزعات تضمر الضغائن، فإن الاعتراف بالخطأ فضيلة. وخير التوابين الخطّاؤون، عندما يتوبون.

مشاريع للمساهمة في استنهاض اقتصاد المجتمعات التي أصابتها لوثة الفشل والتمزق، هي خير ما يمكن أن تنهض به قطر. ولن تمضي عشرون عاما حتى تنطوي الصفحة على خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى