عبدالله بشارة : مطبات عابرة بين واشنطن والرياض
أنا واحد من الملايين الذين أزعجهم غياب التقدير وتسرع الأحكام، الذي رافق دبلوماسية الرئيس الأميركي بايدن منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية، متفوقاً على المرشح الجمهوري ترامب، ولم أكن أستحسن ثقل النعوت والأوصاف التي ترافق حديثه عن المملكة، خاصة ما نسب إليه من وصف المملكة بالدولة المنبوذة Pariah، وهو العنوان الذي كانت تطلقه الجمعية العامة للأمم المتحدة على جمهورية جنوب أفريقيا قبل العهد الديموقراطي، الذي استحضره المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا.
والواضح أن الرئاسة الأميركية الحالية خرجت على قواعد النظام، التي أسست للعلاقات بين البلدين مع لقاء الرئيس روزفلت والملك عبدالعزيز في عام 1943 في قناة السويس، وأبرز ما فيها الانسجام في مسار المصالح القائم على الاحترام المتبادل لاجتهادات كل طرف، مع التأكيد على الاعتدالية في الدبلوماسية واحترام المواثيق والمعاهدات نصاً وروحاً، والدعوة إلى ترسيخ الصداقات مع مختلف الأطراف من دون تدخل في شؤون الدول.
شكلت هذه التفاهمات إطاراً التزم به الملك عبدالعزيز ومن جاء بعده، خاصة الأبناء سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، كما استوعب الملك سلمان محتوى ذلك اللقاء التاريخي مسانداً وملتزماً مع خطوات إضافية تناولت الجوانب الاقتصادية والأمنية والثقافية والعسكرية، الأمر الذي حول هذه التفاهمات الثنائية إلى مشروع إقليمي وعالمي، حصدت جميع دول العالم ثمراته واستفادت من عوائده، عرباً وأفارقة وأوروبيين وآسيويين وغيرهم..
وكنت خلال إقامتي في نيويورك، ومن مبنى الأمم المتحدة، متابعاً لسلوكيات الدبلوماسية السعودية، وكنت أجد فيها الرزانة العاقلة وحذر المجرب، وعطاء السخي وترفّع القادر وتواضع الميسور، مع التزام بالابتعاد عن مطبات السياسة، وترجمتها تحاشي الانخراط في شيء لا تشتهيه، والبعد عن الاصطفاف مع المتذمرين، وكان كثير منهم متواجداً في قاعات الأمم المتحدة ومعظمهم بأجندات وطنية أو إقليمية خاصة.
ما لفت نظري في الدبلوماسية السعودية تجاه الأمم المتحدة عزوفها عن الاشتراك في السباق الحامي للانضمام إلى عضوية اللجان أو الهيئات المختلفة المتفرعة، مع أن المملكة عضو مؤسس للأمم المتحدة.
كان غيابها أو امتناعها عن الترشح لعضوية مجلس الأمن أمراً يطرحه مختلف السفراء، ومن مختلف القارات، ملاحظين أن هناك دولاً لا تملك وزن المملكة تعددت عضويتها في مجلس الأمن وبعضها بلا جدارة.
في عام 1981 اتخذت دول الخليج قرارها التاريخي في قيام مجلس التعاون، ومن هذا القرار اتسعت مسارات الدبلوماسية الخليجية، فتداخلت الاجتهادات وتشابكت المصالح وتعززت المكاسب، وأفرزت هذه الخلطة الخليجية – السعودية – الكويتية دبلوماسية مؤثرة عالمياً وصادقة عربياً ومحورية إقليمياً، مرتكزات العقلانية الفاعلة والتنموية المثمرة، والاعتدالية الآمنة، والواقعية الجاذبة.
وأستطيع أن أؤكد أن هذه الخلطة التي نبتت على أرض المملكة العربية السعودية، ومن كيان مجلس التعاون، تسللت إلى جميع عواصم الخليج، واستقرت في عروق دبلوماسية هذه العواصم.
لاحظت تحولات في جهود المملكة الدبلوماسية تجاه حوارات مع الدول الاشتراكية، استكملت بفتح الأبواب لنشاطات مختلفة، شملت مساهمات لمؤسسات اجتماعية ودينية وشبابية، كما كانت مؤشرات تلك الخلطة تحكي للدبلوماسية الكويتية مآثر الحميمية مع كل الفرقاء الكبير والصغير، مع وعي بفوائد التحفظ على شعارات المتطرفين الأيديولوجيين.
وكنت أستطعم نسيم الانفتاح الدبلوماسي السعودي المتسع، الذي صاحب مسيرة مجلس التعاون، والذي أدخل تبدلات إيجابية في حسابات الرياض.
في عام 1973، ومع حرب أكتوبر جاء الحظر النفطي ضد سياسة كيسنجر المستخفة بشرعية حقوق فلسطين، مع سلبية منظوره تجاه العرب، ومن مبنى الأمم المتحدة وقفت الأسرة العالمية عند حقيقتين، الأولى أبعاد قرار الملك فيصل بفرض الحظر النفطي، والثانية الحكمة السعودية المتزنة في التعامل مع أزمة النفط، والتي اتسمت بمراعاة التوازن بين حق المنتجين وشرعية طلب المستهلكين، بحيث لا ينهار الاقتصاد العالمي، ولا تتضرر شعوب لا علاقة لها بالحروب، مع إصرار على أن يتحول النفط إلى سلعة استراتيجية نادرة، فغير مقبول جفاف مخازن المستهلكين من النفط، مع حرص على الحفاظ على صون السلام العالمي، والعمل على تأكيد الأمن في جميع أرجاء المعمورة.
ورافق هذا المنظور انطلاق دور المملكة في حماية الأمن الاقتصادي العالمي، وتعزز دورها داخل صندوق النقد الدولي، كما تضخمت مشاركتها مع تكاثر تبرعاتها وسخاء مساهماتها في المؤسسات المالية العالمية، مع تأكيد موقعها في تسهيل دروب التنمية للدول النامية، وتميز سخاؤها بالرحمة والتفهم.
خرج العرب من هزيمة 1967 بواقعية أكثر، وأقل استماعاً للاناشيد الأيديولوجية، وأكثر تفهماً لضرورات الحكمة والتعقل، وأقل شهية للراديكالية الثورية التي جاءت بالهزائم والانتكاسات، وأكثر انسجاماً مع الحقائق التي تدير عالم اليوم، والتي ساهمت في ابتعاد العالم العربي عن عبثية الأحلام، وفرضت على العرب التناغم مع إملاءات هذا الزمن.
ومن أكثر ما يحيرني غياب الفهم الأميركي الإيجابي للتطورات الاستنارية والعصرية التي تعيش فيها المملكة، والتوقف تقديراً للشجاعة السياسية والأخلاقية التي تتميز بها هذه التطورات وتأثيراتها داخل المملكة وخارجها، وأنها محورية لانطلاق المملكة نحو العصرنة.
وبدلاً من التحليل السياسي والفكري للمعاني التي تفرزها الخطوات البارزة، التي رافقت تولي سمو الأمير محمد بن سلمان المسؤولية، مع قيادته للمواجهة الحساسة مع قوى الفساد واقتحامه الأبواب الموصدة، واستخراج ما فيها من مظاهر الاستخفاف في المال العام، تجد توقعات أميركية رسمية عن أحداث اسطنبول في تجاهل كامل للقرارات التي اتخذتها السلطة ضد مجموعة اسطنبول، وقد تكون هذه الإجراءات غير كافية في نظر البعض، لكن القفز عليها دون اعتبار يؤشر إلى توجه غير ودي.
ومهما سعى متحدث البيت الأبيض إلى توضيح تبريراته عن هذا التوجه، فإن التحليل العقلاني المحايد حول غياب الحميمية في العلاقات تعبر عن تقصير أميركي في الوقوف على حجم الإسهامات السعودية في تقوية الأمن والسلام في المنطقة، وغياب التثمين للعامل السعودي في تطويع التطرف وفي إخفاقاته، وصد العبثية الإقليمية في التطاول على سيادة الدول وابتزاز قيادتها.
وفوق ذلك، الاعتراف بالدور السعودي – الخليجي في تحصين المصالح المشتركة الخليجية – الأميركية، وتطويق التهديدات التي كانت من أولويات الثورة العربية الراديكالية، التي ترى في هذا التحصن العقبة الكبرى لإفشال المشروع الثوري العربي.
جاء مسعى المملكة لتصبح عضواً في مجلس الأمن مع تولي الملك عبدالله بن عبدالعزيز شؤون الحكم، رغبة في تأكيد الإسهامات السعودية لتأمين السلام والسكينة وفق إملاءات ميثاق الأمم المتحدة، وفازت المملكة بالعضوية وسط ارتياح لتجاوزها سياسة الابتعاد عن المواجهات والمشاغبات، لكن الفرحة لم تكتمل بعد أن تقرر الاعتذار عن المشاركة، وجاء الأردن مكانها، مع تساؤلات، وكان رأي الأغلبية أن الملك عبدالله الحريص على احترام المبادئ والالتزام بفلسفة الميثاق أدرك صعوبة تحقيق ذلك في غياب التوافق بين الدول الدائمة العضوية، الأمر الذي يجعل المجلس شبيهاً بسوق عكاظ، المخزون في الثقافة العربية..
وتبقى المملكة الدعامة الكبرى لاستقرار منطقة الخليج، والتي لا يستغني العالم عن مخزونها الاستراتيجي، وتبرز من هنا حتمية تعانق المنافع الخليجية – الأميركية.