بانوراما

استحضرت رعب الهروب غداة الاستقلال وتنكر الفرنسيين..شهادة حية لأوروبية توثّق اللحظات الأخيرة لمغادر الجزائر!

شهادة حية لسيدة من الأقدام السوداء تروي بحرقة اللحظات الأخيرة وهي تغادر رفقة شقيقتها ميناء الجزائر عبرة باخرة.. هذه الشهادة تعكس بحق مدى تعلق هذه الفئة من الأوروبيين بالجزائر، والتي وفرت ما لم يكونوا يحلمون به، لكنهم خذلوها عندما احتاجتهم.

هذه السيدة، تدعى نيكول ماكوين، وجدت صورة قديمة لها على صدر الصفحة الأولى للعدد الأخير من مجلة “لوفيغارو ماغازين” وهي تلوح بمنديل أبيض مودعة الجزائر باكية.. كانت يومها في سن الـ24 من عمرها، رفقة شقيقتها 27 سنة، أما اليوم فهي عجوز قد تجاوزت العقد الثامن من عمرها (84 سنة).

تتحسر هذه السيادة وتبكي على ضياع الحلم، لكنها عندما تتذكر الرعب الذي عاشته في الجزائر بعد الاستقلال رفقة عائلتها، يجعلها لا تفكر أبدا في العودة إلى الجزائر، كما تقول.

كانت الصورة منفذا لوصول المجلة الفرنسية إلى هذه السيدة لإجراء حوار معها، ونقل أحاسيسها وهي تغادر الجزائر التي نشأت فيها وترعرعت في أحضانها، وتمتعت بخيراتها، لكنها وأمثالها لم يقدموا ما يشفع لهم للاستمرار في العيش على أرضها.

تقول نيكول إن شقيقها حثها على شراء المجلة، لأنها تتضمن مفاجأة، اقتنتها لأنها تحترم شقيقها، كما تقول، وقد تفاجأت وهي تشاهد صورة لها على صدر الصفحة الأولى للمجلة.

تنتقل السيدة الأوروبية للحديث عن حالة الرعب التي اجتاحت المجتمع الأوروبي وهو يبحث عن وسيلة للهروب من الجزائر بعد استقلالها. كان الأوروبيون وهم المعمرون (الكولون) والأقدام السوداء، يقدر عددهم في الجزائر بنحو مليون شخص وفق إحصائيات فرنسية حينها.

لم يكن مسموحا لأبناء هذه الفئة حمل أكثر من حقيبتين على متن الباخرة وهم يغادرون الجزائر، تقول: “حقيبتين فقط لشابتين في سن العشرينيات هذا قليل جدا”.. وقبل ذلك أن تجد مكانا على متن الباخرة، ذلك يحتاج إلى نفوذ ووساطات نافذة، لأن الجميع كان يبحث عن المغادرة في نفس الوقت، تضيف المتحدثة.

أما السفر عبر الطائرة، فذلك غير ممكن ويكتنفه الكثير من الخوف “يتوجب الانتظار في طابور طويل، في حين أن الأخطار تتهدد من كل جهة، سلاح الجزائريين (الفلاقة كما أسمتهم)، وسلاح الجيش الفرنسي، وكذا سلاح منظمة الجيش السري الإرهابي(OAS) ، الجميع لا يريد أن يخرج أحد من الجزائر باتجاه فرنسا حيا”.

“كان الوضع لا يطاق ونحن نغادر ميناء الجزائر عبر الباخرة، كنت أتألم والباخرة تبتعد عن العاصمة.. الجزائر مدينة جميلة جدا وأنا أحبها. لم أكن لأغادرها لولا الظروف.. كانت القنابل والاختطافات بهدف الاغتصاب تحدث في كل يوم.. أتذكر أسماء تعرضوا للاختطاف. كان الوضع مرعبا. والداي أصرا على أن نغادر، لكن أنا وشقيقتي لم نكن نريد المغادرة، لأننا نعتقد أننا في بلدنا، ولم نر داع للمغادرة، فيما غادر شقيقنا”.

ومما زاد من رعب الأوروبيين ومن بينهم عائلة هذه السيادة التهديدات التي تعرضوا لها: “كنا نجد في صندوق البريد تهديدات: الحقيبة أو النعش”. وتضيف: “ثلاثة أرباع من الذين غادروا الجزائر لم يتجهوا إلى فرنسا، ذهبوا إلى المجهول. كانوا تجارا صغارا، وحرفيين كثر وهناك آخرين..”.

بعد رسو السفينة في ميناء مرسيليا، تقول هذه السيدة: “قابلنا سكان هذه المدينة بصراخ “ايها الأقدام السوداء عودوا من حيث جئتم”، “لا نريد الأقدام السوداء”، “الأقدام السوداء إلى البحر”. هكذا واجهونا بلافتات على شرفات العمارات وفي أرصفة المدينة. كان هذا أول استقبال حار لنا، لأن عمال الميناء كانوا محسوبين على اليسار الفرنسي، المعروف بمناهضته للجزائر فرنسية، وبمعارضته للاستعمار”.

كانت لنا فرصة لرؤية أخينا الذي سبقنا في الهروب من الجزائر، تقول المتحدثة، وبعد يومين من التحاقنا بفرنسا، اقتربنا من الصليب الأحمر الذي كان يقوم بجهود إيواء الفارين من الجزائر، و”أبلغناهم بأننا من الأقدام السوداء. أتذكر يومها طفلة صغيرة فقيرة، كانت تشتغل عند حلاقة، لم تجد ما تسدد به غرفة في فندق، وقد دفعنا لها المستحقات من جيوبنا، كانت لفتة من أجل التكفل بمثل هذه الحالات ولو لليلة واحدة، قبل مغادرة مرسيليا، لأن سكانها لم يريدوا استقبالنا”.

وختمت متحسرة على ضياع حلم الجزائر فرنسية: “اشتاق إلى الجزائر، لكن عندما أتذكر تلك المآسي والظروف القاسية، سرعان ما أتراجع..”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى