رأي في الحدث

جعفــرعبـــاس: الحمد لله عشنا وشُفْنا

لماذا‭ ‬أقلب‭ ‬دفاتري‭ ‬القديمة‭ ‬مقارنا‭ ‬ما‭ ‬فات‭ ‬بما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة؟‭ ‬أفعل‭ ‬ذلك‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬تقليب‭ ‬المواجع‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬استحضار‭ ‬ماض‭ ‬عشناه‭ ‬في‭ ‬رضا‭ ‬تام،‭ ‬ثم‭ ‬ابداء‭ ‬العجب‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬استجد‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬وجيل‭ ‬الشباب‭ ‬الحالي،‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬متعة‭ ‬الدهشة،‭ ‬وهو‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الاسانسير‭ ‬والسلالم‭ ‬الكهربائية‭ ‬والتلفزيون‭ ‬والتلفون‭ ‬وصابون‭ ‬الاستحمام‭ ‬أبو‭ ‬ريحة،‭ ‬وكراسي‭ ‬الجلوس‭ ‬المريحة‭ (‬ما‭ ‬هذه‭ ‬التسمية‭ ‬البلهاء؟‭ ‬كراسي‭ ‬جلوس؟‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬كراسي‭ ‬وقوف‭ ‬وكراسي‭ ‬نوم؟‭ ‬نفس‭ ‬تساؤلي‭ ‬بالأمس‭: ‬لماذا‭ ‬تسمى‭ ‬غرفة‭ ‬ما‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬نوم‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬كل‭ ‬الغرف‭ ‬تصلح‭ ‬للنوم،‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬غرفة‭ ‬مخصصة‭ ‬للسهر‭ ‬والأرق؟‭ ‬ستقول‭ ‬لي‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬غرفة‭ ‬جلوس‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬النوم‭ ‬فيها‭ ‬ممنوع‭ ‬أو‭ ‬حرام‭ ‬أو‭ ‬مستحيل؟‭).‬

نحن‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يصدق‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا،‭ ‬أن‭ ‬رواد‭ ‬فضاء‭ ‬أمريكان‭ ‬نزلوا‭ ‬على‭ ‬القمر،‭ ‬وركب‭ ‬المحظوظون‭ ‬منا‭ ‬الطائرات‭ ‬ذات‭ ‬المراوح‭ ‬الأربعة‭ ‬او‭ ‬الاثنتين،‭ ‬وأحس‭ ‬بأنه‭ ‬خرق‭ ‬الأرض‭ ‬وبلغ‭ ‬الجبال‭ ‬طولا،‭ ‬وظل‭ ‬يحكي‭ ‬للآخرين‭ ‬عن‭ ‬تجربته،‭ ‬وكيف‭ ‬وصل‭ ‬القاهرة‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬الخرطوم‭ ‬في‭ ‬خمس‭ ‬ساعات‭ (‬نعم،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الطائرات‭ ‬مجرد‭ ‬عربات‭ ‬كارو‭ ‬تجرها‭ ‬الحمير‭ ‬والحصين‭ ‬مقارنة‭ ‬بنفاثات‭ ‬العصر‭ ‬الراهن‭)‬،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬سر‭ ‬الصندوق‭ ‬الضخم‭ ‬الذي‭ ‬يتكلم‭ ‬ويغني‭ (‬كانت‭ ‬معظم‭ ‬أجهزة‭ ‬الراديو‭ ‬بحجم‭ ‬التلفزيون‭ ‬أبو‭ ‬عشرين‭ ‬بوصة‭ ‬وتعمل‭ ‬ببطاريات‭ ‬بمقاس‭ ‬بطاريات‭ ‬السيارات‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭)‬،‭ ‬وجاء‭ ‬التلفزيون،‭ ‬وبذلك‭ ‬أتيح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬‮«‬الحكومة‮»‬،‭ ‬وكنا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬نحسب‭ ‬الحكومة‭ ‬كائنا‭ ‬هلاميا‭ ‬خرافيا،‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬العاصمة‮»‬،‭ ‬وشغال‭ ‬بكيفه‭ ‬وعلى‭ ‬كيفه‭ (‬ما‭ ‬زال‭ ‬شغال‭ ‬بكيفه‭ ‬وعلى‭ ‬كيفه‭ ‬ولكننا‭ ‬صرنا‭ ‬نعرف‭ ‬ما‭/ ‬من‭ ‬هو‭ ‬بالضبط‭).‬

أول‭ ‬دولتين‭ ‬عرفتا‭ ‬التلفزيون‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كانتا‭ ‬السودان‭ ‬والعراق‭ (‬1962‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬السودان‭ ‬وقتها‭ ‬خاضعا‭ ‬لحكم‭ ‬عسكري‭ (‬1958-1964‭)‬،‭ ‬اسقطه‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬انتفاضة‭ ‬شعبية،‭ ‬ثم‭ ‬أدرك‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬اللاحقة‭ – ‬عندما‭ ‬جاءت‭ ‬ديكتاتوريات‭ ‬عسكرية‭ ‬أخرى‭ – ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحكومة‭ ‬كانت‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬حنونة‭. ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحكومة‭ ‬وزعت‭ ‬تلفزيونات‭ ‬على‭ ‬الميادين‭ ‬العامة‭ ‬والأندية‭ ‬الثقافية‭ ‬والرياضية،‭ ‬فاهتز‭ ‬سوق‭ ‬دور‭ ‬السينما،‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬كانت‭ ‬تمتلئ‭ ‬بالمئات‭ ‬من‭ ‬المشاهدين،‭ ‬منذ‭ ‬السادسة‭ ‬مساء‭ (‬بدء‭ ‬الارسال‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم‭) ‬وحتى‭ ‬عزف‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬مساء،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬يبقى‭ ‬خارج‭ ‬بيته‭ ‬بعد‭ ‬العاشرة‭ ‬يعتبر‭ ‬صعلوكا‭ ‬فالتا‭ (‬في‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬سهرة‮»‬‭ ‬ترفيهي‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني،‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬البث‭ ‬الحي‭/ ‬المباشر‭ ‬لكل‭ ‬البرامج،‭ ‬كان‭ ‬محمد‭ ‬سليمان‭ ‬مقدم‭ ‬البرنامج‭ ‬قد‭ ‬فوجئ‭ ‬بأن‭ ‬المطرب‭ ‬الذي‭ ‬سيغني‭ ‬خلال‭ ‬البرنامج،‭ ‬سكران‭ ‬طينة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬توكل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬وسمح‭ ‬له‭ ‬بالمشاركة‭ ‬بالغناء،‭ ‬لأن‭ ‬منعه‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬الغاء‭ ‬البرنامج،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬ممكنا‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬بديل‭ ‬يشغل‭ ‬ساعة‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬البث،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظه‭ ‬أدى‭ ‬المطرب‭ ‬أغنياته‭ ‬بدون‭ ‬تهتهة‭ ‬أو‭ ‬لجلجة،‭ ‬وتنفس‭ ‬محمد‭ ‬سليمان‭ ‬الصعداء،‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬الختام‭: ‬مشاهدينا‭ ‬الأعزاء‭ ‬وبهذا‭ ‬تنتهي‭ ‬‮«‬سكرة‮»‬‭ ‬اليوم‭).‬

ثم‭ ‬جاء‭ ‬التلفزيون‭ ‬الملون،‭ ‬وصرنا‭ ‬نعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يرتدي‭ ‬فلان‭ ‬وفلانة،‭ ‬ونميز‭ ‬ألوان‭ ‬المباني،‭ ‬ونرى‭ ‬الأشياء‭ ‬على‭ ‬طبيعتها،‭ ‬وتلفّت‭ ‬يا‭ ‬عزيزي‭ ‬عزيزتي‭ ‬حولك‭ ‬اليوم‭ ‬وستجد‭ ‬أن‭ ‬الصغار‭ ‬والشباب‭ ‬غير‭ ‬ميالين‭ ‬لمشاهدة‭ ‬ما‭ ‬يبثه‭ ‬التلفزيون‭: ‬يا‭ ‬أولاد‭ ‬تعالوا‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ ‬حلو‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭. ‬فيأتيك‭ ‬الرد‭: ‬شفته‭ ‬قبل‭ ‬شهرين‭ ‬في‭ ‬يوتيوب‭ (‬الترجمة‭ ‬الحرفية‭ ‬لهذه‭ ‬التسمية‭ ‬هي‭ ‬‮«‬أنت‭ ‬ماسورة‮»‬،‭ ‬وأعجب‭ ‬كيف‭ ‬يتداولها‭ ‬السودانيون،‭ ‬بينما‭ ‬وصف‭ ‬شخص‭ ‬بأنه‭ ‬ماسورة‭ ‬في‭ ‬سودان‭ ‬اليوم‭ ‬تعني‭ ‬أنه‭ ‬مخادع‭ ‬وكذاب‭ ‬ومستهبل،‭ ‬ويدعي‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬وله‭).‬

وكشخص‭ ‬ظل‭ ‬يأكل‭ ‬العيش‭ ‬من‭ ‬تصيد‭ ‬الأخبار‭ ‬العالمية،‭ ‬فقد‭ ‬أصبت‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬بعقدة،‭ ‬ويا‭ ‬ما‭ ‬فاجأني‭ ‬أحد‭ ‬عيالي‭ ‬بكلام‭ ‬مثل‭: ‬ترامب‭ ‬قرر‭ ‬أو‭ ‬قال‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬يهمني‭ ‬ويهم‭ ‬غيري،‭ ‬باعتبار‭ ‬ان‭ ‬رئيس‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬يقرر‭ ‬ويبت‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬تهم‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى،‭ ‬واتساءل‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬هذا‭ ‬الخبر،‭ ‬وانت‭ ‬لم‭ ‬تجلس‭ ‬أمام‭ ‬التلفزيون‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬أوباما؟‭ ‬فيكون‭ ‬الرد‭: ‬سمعت‭ ‬وقرأت‭ ‬الخبر‭ ‬في‭ ‬سي‭. ‬إن‭. ‬إن‭. ‬في‭ ‬التلفون‭!! ‬فتتذكر‭ ‬ان‭ ‬تلفون‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مهمته‭ ‬توصيل‭ ‬الكلام‭ ‬بين‭ ‬شخصين‭ ‬او‭ ‬أكثر‭ (‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬بالمكالمات‭ ‬الجماعية‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬مصدرا‭ ‬للأخبار‭ ‬المدعومة‭ ‬بالنصوص‭ ‬المكتوبة‭ ‬والصور‭ ‬الحية‭ / ‬المتحركة،‭ ‬فتقول‭ ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬أن‭ ‬لم‭ ‬يأتني‭ ‬أجلي‭ ‬حتى‭ ‬شهدت‭ ‬تحول‭ ‬التلفون‭ ‬الى‭ ‬تلفزيون‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى