رأي في الحدث

جعفــرعبـــاس: عن التفنيش وقطع العيش

لا‭ ‬أحب‭ ‬عبارة‭ ‬قطع‭ ‬الأعناق‭ ‬ولا‭ ‬قطع‭ ‬الأرزاق،‭ ‬فلا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭ ‬سوى‭ ‬السجع،‭ ‬فقطع‭ ‬العنق‭ ‬يعني‭ ‬القتل‭ ‬والقتل‭ ‬يقطع‭ ‬الرزق‭ ‬والنسل،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أعرج‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬النفس‭ ‬والاقتصاديين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬والبريطانيين،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬14‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬أحوال‭ ‬24‭ ‬ألف‭ ‬شخص،‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬معطيات‭ ‬وظروف‭ ‬معينة،‭ ‬ونشروا‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬شهر‭ ‬يوليو‭ ‬المنصرم‭ ‬خلاصة‭ ‬تلك‭ ‬الدراسة،‭ ‬وكان‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬فقدان‭ ‬الوظيفة‭ ‬أقسى‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬الطلاق،‭ (‬وليس‭ ‬من‭ ‬الموت‭) ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬الترمل‭ ‬أحياناً،‭ ‬وتقول‭ ‬الدراسة‭ ‬إن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬الآثار‭ ‬المدمرة‭ ‬للطرد‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬ما،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬استرد‭ ‬نفس‭ ‬تلك‭ ‬الوظيفة‭ ‬لاحقاً،‭ ‬فإنه‭ ‬يصبح‭ ‬قلقاً‭ ‬ومحبطاً‭ ‬وموسوساً،‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬خلق‭ ‬هلوعا‭ ‬وإذا‭ ‬مسه‭ ‬الشر‭ ‬جزوعا،‭ ‬ويظل‭ ‬يتساءل‭: ‬هل‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬ان‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬لي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؟

ولأن‭ ‬الله‭ ‬ابتلانا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بإداريين‭ ‬تنابلة‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬كوعه‭ ‬من‭ ‬بوعه،‭ ‬فإننا‭ ‬نعاني‭ ‬من‭ ‬تفشي‭ ‬عدم‭ ‬الأمن‭ ‬الوظيفي،‭ ‬فهناك‭ ‬صنف‭ ‬المدير‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬مهمته‭ ‬هي‭ ‬التنكيد‭ ‬على‭ ‬الموظفين،‭ ‬ويقضي‭ ‬معظم‭ ‬وقته‭ ‬موزعاً‭ ‬‮«‬لفت‭ ‬النظر‮»‬‭ ‬والإنذارات‭ ‬وإشعارات‭ ‬مجالس‭ ‬التأديب،‭ ‬وأسهل‭ ‬كلمة‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬المديرين‭ ‬هي‭: ‬فنشوه‭! ‬لا‭ ‬يهم‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشخص،‭ ‬أنه‭ ‬يفنش‭ ‬عيالاً‭ ‬من‭ ‬مدارسهم‭ ‬وجامعاتهم،‭ ‬وأنه‭ ‬يحكم‭ ‬على‭ ‬عائلة‭ ‬بالرحيل‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬قضت‭ ‬فيه‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كلمته‭ ‬تلك‭ ‬قد‭ ‬تقود‭ ‬الشخص‭ ‬المفنش‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬لأنه‭ ‬سيصبح‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬سداد‭ ‬أقساط‭ ‬التزم‭ ‬بها‭ ‬عند‭ ‬شراء‭ ‬سيارة‭ ‬أو‭ ‬بيت‭!‬

ولا‭ ‬أعرف‭ ‬منطقة‭ ‬يتم‭ ‬فيها‭ ‬تداول‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬تفنيش‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬‮«‬السلام‭ ‬عليكم‮»‬‭ ‬مثل‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج،‭ ‬وخاصة‭ ‬بحق‭ ‬العمالة‭ ‬الوافدة‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬تفنيش‭ ‬العامل‭ ‬الأجنبي‭ ‬بغرض‭ ‬إحلال‭ ‬عنصر‭ ‬مواطن‭ ‬لكان‭ ‬الأمر‭ ‬مقبولاً‭ ‬ومفهوماً،‭ ‬ولكن‭ ‬وفي‭ ‬معظم‭ ‬الحالات‭ ‬يتم‭ ‬تفنيش‭ ‬عامل‭ ‬أو‭ ‬موظف‭ ‬تونسي‭ ‬‭ ‬مثلاً‭ ‬‭ ‬ليحل‭ ‬محله‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬منغوليا‭!! ‬والله‭ ‬العظيم‭ ‬كنت‭ ‬شاهداً‭ ‬على‭ ‬قرار‭ ‬طرد‭ ‬عامل‭ ‬آسيوي‭ ‬من‭ ‬وظيفته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬غسل‭ ‬الحمامات‭ ‬وتنظيف‭ ‬الممرات،‭ ‬لأن‭ ‬والده‭ ‬ووالدته‭ ‬توفيا‭ ‬بفارق‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬عن‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض،‭ ‬فقد‭ ‬مات‭ ‬الوالد‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬سير‭ ‬بينما‭ ‬ظلت‭ ‬الوالدة‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬تصارع‭ ‬الموت‭ ‬حتى‭ ‬صرعها‭ ‬بعد‭ ‬زوجها‭ ‬بفترة‭ ‬قصيرة،‭ ‬وكان‭ ‬قرار‭ ‬التفنيش‭ ‬الفظ‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وفاة‭ ‬الأم‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬العامل‭ ‬سيضطر‭ ‬إلى‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬مجدداً‭ ‬لترتيب‭ ‬أوضاع‭ ‬إخوته‭ ‬الصغار‭ ‬اليتامى،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنه‭ ‬‮«‬كثير‭ ‬الغياب‮»‬،‭ ‬ونصحت‭ ‬ذلك‭ ‬المسؤول‭ ‬بإصدار‭ ‬تعميم‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬إنه‭ ‬غير‭ ‬مسموح‭ ‬بوفاة‭ ‬أقارب‭ ‬الموظفين‭ ‬والعمال‭ ‬إلا‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭! ‬ولم‭ ‬يفهم‭ ‬الغبي‭ ‬كلامي،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬هب‭ ‬أنك‭ ‬فقدت‭ ‬عزيزاً‭ ‬لديك‭ ‬اليوم،‭ ‬ثم‭ ‬عزيزاً‭ ‬آخر‭ ‬الأسبوع‭ ‬المقبل‭.. ‬لم‭ ‬يدعني‭ ‬أكمل‭: ‬أعوذ‭ ‬بالله‭ ‬يا‭ ‬رجل‭! ‬لماذا‭ ‬‮«‬تُفَّول‮»‬‭ ‬عليّ،‭ ‬أي‭ ‬تقول‭ ‬كلاماً‭ ‬قد‭ ‬يعود‭ ‬عليّ‭ ‬بالفاجعة‭!! ‬قلت‭ ‬له‭: ‬أنت‭ ‬ارتجفت‭ ‬وارتعبت‭ ‬لأنني‭ ‬فقط‭ ‬قلت‭ ‬‮«‬هب‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أنني‭ ‬افترضت‭ ‬أمراً‭ ‬غير‭ ‬حادث،‭ ‬فلماذا‭ ‬تستخف‭ ‬بمشاعر‭ ‬شخص‭ ‬فقد‭ ‬الوالدين‭ ‬فعلا؟‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تواسيه‭ ‬تجعل‭ ‬مصابه‭ ‬مضاعفاً‭!! ‬ووالله‭ ‬العظيم‭ ‬سمح‭ ‬له‭ ‬بالسفر‭ ‬إلى‭ ‬بلده،‭ ‬لتلقي‭ ‬العزاء،‭ ‬ولكنه‭ ‬فنشه‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬بنحو‭ ‬شهر،‭ ‬ربما‭ ‬ليؤكد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬كلامي‭ ‬دخل‭ ‬من‭ ‬أذنه‭ ‬اليمنى‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬اليسرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬أي‭ ‬مواد‭ ‬شبه‭ ‬صلبة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬آذانهم‭.‬

والتبطل‭ ‬أو‭ ‬فقدان‭ ‬الوظيفة‭ ‬يعطي‭ ‬الإنسان‭ ‬الإحساس‭ ‬بفقدان‭ ‬‮«‬القيمة‮»‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬المسنين‭ ‬يصابون‭ ‬باضطرابات‭ ‬نفسية،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تركوا‭ ‬وظائفهم‭ ‬بعد‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬سن‭ ‬التقاعد‭ ‬القانونية،‭ ‬فتراهم‭ ‬عصبيين‭ ‬ويحشرون‭ ‬أنوفهم‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬لا‭ ‬تخصهم‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬الحي،‭ ‬فكيف‭ ‬يكون‭ ‬حال‭ ‬شخص‭ ‬أمضى‭ ‬سنوات‭ ‬طفولته‭ ‬وشبابه‭ ‬الباكر‭ ‬يدرس‭ ‬ويتعلم‭ ‬ثم‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬بلا‭ ‬‮«‬قيمة‮»‬‭ ‬ويكتشف‭ ‬أن‭ ‬الشهادات‭ ‬التي‭ ‬فرح‭ ‬بنيلها‭ ‬عديمة‭ ‬‮«‬القيمة»؟‭ ‬وإذا‭ ‬دفعه‭ ‬الملل‭ ‬إلى‭ ‬التسكع‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬قلنا‭ ‬عنه‭: ‬عنده‭ ‬بكالوريوس‭ ‬صياعة‭!‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى