عبدالمنعم ابراهيم : بريطانيا.. ملكية مستقرة.. وحكومات متصارعة
هناك تعبيرٌ شائعٌ في الثقافةِ السياسيَّةِ الأوروبيَّةِ يقول (مات الملك.. عاش الملك) بتعبيرٍ آخر إن «الملكيَّةَ الدستوريَّةَ» لا تموتُ بموتِ الملك.. وهذا ما يمكنُ ملاحظتُه في السيرةِ الملكيةِ البريطانيَّةِ التي حافظت على استقرارِ الحكمِ الملكي فيها لعقودٍ طويلة، وجاءت مسيرةُ الملكةِ الراحلةِ (إليزابيث الثانية) الطويلةُ في الحكمِ لتعزيزِ هذه القناعةِ السياسيةِ، التي ولدت يوم 21 أبريل 1926 في حي مايفير الراقي بالعاصمة لندن، وفي 6 فبراير عام 1952 اعتلت إليزابيث الثانية العرشَ، وفي 8 فبراير نصبت رئيسة للكنيسة الإنجليكانية والكومنولث، وتوجت ملكة بعدها في 2 يونيو عام 1953، وأدت اليمين وهي في سن الـ 27 عاماً.. وقد احتفل البريطانيون باليوبيل البلاتيني (السبعيني) لجلوسِها على العرش في شهر يونيو الماضي.. وخلال عهدِها التاريخي عاصرت الملكةُ إليزابيث 15 رئيس وزراء لبريطانيا، وتحظى بشعبيةٍ واسعة بين أفرادِ الشعبِ البريطاني، الذين ينظرون إليها كعامل أساسي في الاستقرار السياسي للمملكة المتحدة، أي الحفاظ على تاريخ الملكية في بريطانيا.
لذلك سوف يحتاجُ خليفتُها ابنُها الملك (تشارلز الثالث) إلى وقتٍ من الزمن لكي يحصدَ شعبيةَ والدته، التي استمرت سبعين عاماً، وخصوصاً أنه يتولى العرشَ في مرحلةٍ صعبة، إذ تواجه بريطانيا أسوأ أزمةٍ اقتصادية في السنوات الأربعين الأخيرة، وتشهد البلادُ توتراتٍ داخليةٍ ناجمةٍ عن تبعات بريكست (الخروج من الاتحاد الأوروبي)، والطموحات الاستقلالية والتوترات في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وفي المستعمرات البريطانية السابقة التي لا تزال تابعةً للمملكة المتحدة والتي تُكثر الانتقادات للماضي الاستعماري، فيما يتعزز المنحى الجمهوري فيها، إلا أنه لا يزال (تشارلز) كما والدته يُعد ملكاً ورئيس 15 دولة من نيوزيلندا إلى جزر البهاماس.
وبقراءةٍ سياسيةٍ لتاريخ الملكية في بريطانيا، يمكن القول إنها حافظت على استقرار وثبات (الملكية) في وجه الأعاصير السياسية والحروب العالمية والأزمات السياسية التي مرت بها لعقود طويلة، وبتعبير آخر (الملكية الدستورية) في بريطانيا أكثر ثباتاً من أنظمة جمهورية أوروبية كثيرة،.. بل يمكن القول إنها أكثر استقراراً وحفاظاً على الديمومة من الحكومات البريطانية المتعاقبة في المملكة، حيث توجت الملكة إليزابيث وهي صغيرة في عمر 27 عاماً، ولكنها تمكنت من الحفاظ على تقاليد الملكية سبعين عاماً من حكمها ولا ينافسها أحد على التاج البريطاني وظل ابنها (تشارلز) محافظاً وحامياً لعرش والدته حتى بعد تقدمها في السن وهي تناهز 96 عاماً.
هذا لا يعني أن مسيرة الملكية البريطانية خالية من الأخطاء أو لا يشوبها العيوب السياسية والاجتماعية، فهناك زيجات فاشلة وأخرى ناجحة داخل الأسرة الملكية البريطانية، وهناك خيانات أيضاً، وهناك إساءة تصرفات صدرت من أفراد في الأسرة الملكية، وبعضها تحول إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية وسينمائية.. لكن استطاعت التقاليد الملكية البريطانية معالجتها بحكمة ورؤية سليمة للأحداث الدرامية التي مرت بها، وحافظت على استقرار وثبات الملكية والتاج البريطاني.
وعلى النقيض من ذلك كانت (الحكومات البريطانية) المتعاقبة على رئاسة الوزراء تشهد حالات من عدم الاستقرار والاضطرابات السياسية، وتشهد مؤامرات كيدية في كواليس البرلمان البريطاني ضد بعضهم البعض، ليس فقط في الصراع بين حزب المحافظين وحزب العمال، ولكن فيما بين الأحزاب الحاكمة نفسها، وفيما بين (حكومات الظل) في المعارضة أيضاً.
ولو توقفنا فقط أمام التاريخ الحديث للحكومات البريطانية سنجد أن المرأة الحديدية (مارجريت تاتشر) التي ترأست حكومة المحافظين سنوات طويلة، أسقطها من رئاسة الوزراء (وزير) في حكومتها العتيدة! وهكذا أيضاً كان مصير رئيسة الوزراء (تيريزا ماي) التي تآمر عليها وزير خارجيتها آنذاك (بوريس جونسون) وأسقطها من رئاسة الحكومة! ومن ثم دفع هو الثمن أيضاً حين تعالت الانتقادات في حكومته احتجاجاً على سياساته الفاشلة، كان آخرها استقالة وزير المالية السابق (ريشي سوناك)، وفقد جونسون منصبه في رئاسة الحكومة.. والآن جاءت إلى رئاسة الحكومة البريطانية وزيرة الخارجية السابقة (ليز تراس) التي يبدو أنها لن تعمر هي الأخرى طويلاً في رئاسة الحكومة، لأنها استبعدت من (المناصب الأساسية) كل الأشخاص والوزراء وأعضاء حزبها الذين كانوا يؤيدون منافسها في السباق الانتخابي (ريشي سوناك)!!
باختصار الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواء من حزب المحافظين أو العمال، كانت تشهد صراعات وانقسامات ومؤامرات كيدية ضد بعضها البعض.. وكان يحدث ذلك حتى أثناء خوض بريطانيا الحرب العالمية الثانية، التي شهدت صراعات بين (تشرشل) وخصومه السياسيين في البرلمان وفي الحكومة البريطانية آنذاك.. فريق يسعى إلى مواصلة الحرب ضد النازية، وفريق آخر يريد إجراء مفاوضات سلمية مع (أدولف هتلر)!
بينما تمتعت الأسرة الملكية في بريطانيا باستقرار وثبات وديمومة في حفاظها على العرش والتاج البريطاني رغم ما مرت عليها من محن ومصائب وفضائح اجتماعية، لأن التقاليد الملكية تعطي الأولوية للحفاظ على التاج البريطاني، بينما الحكومات البريطانية كانت الأولوية لديها إسقاط كل رئيس وزراء جديد!!
بريطانيا.. ملكية مستقرة وحكومات متصارعة.