أحمد الجارالله : بهلول لهارون الرشيد: عمَّرتم القصور وخرَّبتم القبور… اتعظوا
يُحكى أنَّ بهلولاً كان رجلاً مجنوناً في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وفي يوم مرَّ هارون قرب إحدى المقابر فوجده جالساً هناك، فقال الخليفة معنفاً: يا بهلول، متى تعقل؟
ردَّ المجنونُ بأعلى صوته: “يا هارون… يا مجنون متى تعقل؟”.
فاقترب منه هارون وهو على صهوة حصانه، وقال: أنا المجنون أم أنت الذي يجلس في المقابر؟
رد بهلول: “بل أنا عاقل؛ لأنني عرفت أن هذا زائل (وأشار إلى قصر الخليفة)، وأن هذا باقٍ (وأشار إلى القبر)، فعمّرت هذا قبل هذا، وأما أنت فإنك قد عمّرت هذا (يقصد قصره)، وخرّبت هذا (وأشار إلى القبر)، فتكره أن تنتقل من العمران إلى الخراب، رغم علمك أنه مصيرك لا محال، فأيُّنا المجنون؟
ردَّ الرشيد: والله إنك صدقت، فزدني يا بهلول.
قال المجنون: “يكفيك كتاب الله فالزمه”.
رد هارون: “ألك حاجة فأقضيها؟”.
قال بهلول: “نعم، ثلاث حاجات إن قضيتها شكرتك”.
قال: اطلب.
رد المجنون: “أن تزيد في عمري”!
أجاب الخليفة: لا أقدر.
فقال: “أن تحميني من ملك الموت”!
أجاب الخليفة: لا أستطيع.
فقال: “أن تدخلني الجنة، وتبعدني عن النار”!
ردَّ هارون: لا يمكنني فعل ذلك.
حينها قال بهلول: “فاعلم أنك مملوك ولست ملكاً، ولا حاجة لي عندك”.
هذه القصة البليغة تكشف عما يجعل حياة الحاكم أكثر سعادة إذا هو أيقن منذ البدء، أن حكمه أمانة عليه تأديتها على أكمل وجه، وأن تبقى أبوابه مفتوحة للناس، إما يلتقيهم مباشرة، وإما عبر مسؤولين أكفاء مختارين بعناية، يتمتعون بالصدق والأمانة، ومخافة الله، ولا تكون صلة القربى، أو المنفعة الشخصية تزكية لهم.
في الديمقراطيات المباشرة يبقى المسؤول قريباً من الناس، ويتمتع بشفافية كبيرة في التعامل معهم، ولهذا قلما تجد مسؤولاً فاسداً أو وزيراً متلاعباً، فيما رئيس الوزراء بصفته المسؤول التنفيذي الأول في الدولة، هو يحاسب دائماً أمام البرلمان والشعب، وتُسحب منه الثقة عند أي زلة، أو سقطة، بل في دول عدة أُقتيد من مكتبه إلى السجن.
في العام 2015، اضطرت الوزيرة السويدية مانا سالين لتقديم استقالتها بعدما أدانها القضاء بملء خزان سيارتها الخاصة بالبنزين على حساب الدولة مستخدمة بطاقة صرف ممنوحة لها من الحكومة وبقيمة لم تزد على 60 دولاراً، ورغم أن الوزيرة أثبتت أنها أعادت المبلغ في اليوم التالي، إلا أن القانون السويدي اعتبر هذا التصرف استغلالاً للمال العام، ما دفعها إلى تقديم استقالتها فوراً.
تركت الوزيرة منصبها ليس بسبب 60 دولاراً، بل لأنها مؤتمنة على المال العام، وشؤون وزارتها، ولهذا إذ تهاونت بهذا المبلغ، ولم تحاسب تكون فتحت الباب واسعاً لفساد أكبر.
في تلك الدول، الإنسان هو الأساس لأنه المعني الأول بقدرة الدولة على التطور، ولهذا حين لا يسمع صوته تدب الفوضى في المجتمع بسبب إنكار المسؤولين للواقع، وعدم قدرتهم على مجاراة الناس الذين هم في النهاية المعطف الحامي للحكم، إذا أحسن الأخير استخدامه والاستجابة له، أما حين يُساء ذلك تغيب المحاسبة، ويعم الفساد.
قال العزيز الحكيم في كتابه الكريم: “إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ”، وقد قدم القوي على الأمين، بمعنى أن صاحب القرار لا يمكن أن يكون أميناً على الرعية إذا لم يتمتع بالقوة في التصميم على القرار، وكذلك الإصلاح في حال وجد أن قراره تشوبه بعض العيوب التي تخل بالأمانة.
عاشت الكويت سنوات سادها العراك بين الساعين إلى حلب ضرعها، كلٌّ وفق رؤيته، فيما الأمل في قادم الأيام بقرارات الحسم المستقبلية لولي الأمر والنهي.