عبدالله بشارة : الخليج.. ودبلوماسية النفط
برزت القيمة الإستراتيجية للطاقة كحصيلة للحرب الروسية – الأوكرانية التي أدت إلى مقاطعة صادرات روسيا من النفط من قبل الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، مع توقعات بأن تقوم منظمة أوبك أو بعض من أعضائها الخليجيين بتعويض العالم بزيادة الإنتاج الخليجي لكي يسير العالم من دون هزات تخلقها روسيا، وهذه المرة الثانية التي تهتز الأسرة العالمية فيها لعدم توافر الكمية المطلوبة من الطاقة مع عدم وضوح المواقف داخل أوبك تجاه زيادة الانتاج.
فقد مرت الأسرة العالمية بالتجربة نفسها عام 1973، في أعقاب قرار المملكة العربية السعودية فرض حظر التصدير إلى الولايات المتحدة بسبب مواقف سياسية غير ودية اتخذتها واشنطن بشكل متعارض مع المواقف الخليجية.
وكانت أزمة عالمية خصصت الأمم المتحدة من أجلها دورة خاصة لبحث النظام الاقتصادي العالمي ومعاناة الدول النامية منه.
كنت مندوب الكويت في الأمم المتحدة عندما جاء الرئيس الجزائري بومدين يعرض حالة الظلم التي تعاني منها الدول النامية بسبب أنانية الشركات العالمية العابرة للحدود Transnational Companies، واستحواذها على المكاسب على حساب الدول المنتجة.
دخلت الجمعية العامة للأمم المتحدة في حالة من المواجهة بين العالم المتقدم والدول النامية، وكانت أمضى الأسلحة موجودة في ترسانة الدول النامية هي الطاقة وندرة تواجدها وحاجة العالم لها، واضطرابه من دونها، وكانت قائمة الأمم المتحدة ميداناً للتهديدات وساحة مواجهة تشكو منها الدول النامية من تواضع نصيبها من النظام العالمي، بينما تدافع الدول المتقدمة عن دور شركات النفط التي ضخت المال واخترعت التكنولوجيا لاستخراج الطاقة من باطن الأرض.
كانت هناك مقترحات مطروحة تتعلق بآلية تشرف عليها الأمم المتحدة لمراقبة الإنتاج والتصدير بحيث لا تتعرض الدول المتقدمة لتحولات مزاجية من قبل المنتجين، وقد قاومت الدول النامية هذا الاقتراح وفشل وانتهت الدورة، وكانت حصيلتها أن العالم بحاجة للطاقة، وأن الطاقة سلعة نادرة يجب ألا تتعرض للحسابات السياسية وأن ازدهار العالم يتوقف على توافر الحجم المطلوب من هذه الطاقة.
كما على المنتجين تصدير الكميات التي تحتاجها الأسرة العالمية وبأسعار مقبولة ليست فيها مبالغة تضر الدول المستوردة، وأن يكون السعر مقبولاً من الطرفين.
كان الموقف السعودي في تلك الدورة الخاصة معبراً عن الاعتدال الواعي للمسؤولية التي تتحملها الدول المنتجة تجاه عافية الاقتصاد العالمي من دون مبالغات في السعر، كما كان يريد شاه إيران والرئيس بومدين، بينما تتوافق المجموعة الخليجية المنتجة للنفط مع الموقف السعودي الذي التزم التوازن في المسؤوليات.
ومنذ حرب أكتوبر 1973 وحتى الغزو الروسي لجمهورية أوكرانيا، كانت المعادلة السعودية فعالة ومؤثرة وتنال قبول الطرفين.
تبدلت الأحوال مع الغزو الروسي واتخذت الولايات المتحدة موقفاً سياسياً ودفاعياً ضد السياسة الروسية، بما في ذلك مقاطعة صادراتها من النفط، وبالطبع فإن البديل لغياب النفط الروسي يتمثل في المجموعة الخليجية التي بمقدورها زيادة الإنتاج لسد النقص في الأسواق العالمية، إدراكاً منها بالمسؤولية الخاصة التي تتحملها الدول المنتجة، لا سيما الخليجية منها، وأعتقد أن واشنطن والدول المتقدمة كانت تحمل قناعة قوية بأن المملكة العربية السعودية، وهي الأقدر في دبلوماسية النفط، لن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه الاقتصاد العالمي، وتجاه أمن الأسرة العالمية، مع الحفاظ على أن يكون سعر البرميل مقبولاً ولا يؤدي إلى اختلالات قوية في الاقتصاد العالمي.
ومن خلال الأحداث التي مرت بها دبلوماسية النفط، برز دور استثنائي للمملكة العربية السعودية في معالجتها لقضايا الطاقة بالوعي العميق لحساسية تسلل مشاكل السياسة لقضايا الطاقة، لأن بروز العامل السياسي في فضاء الطاقة يؤدي إلى مشاحنات داخل منظمة أوبك، وإلى انقسامات بين كبار المنتجين، ويدفع كبار المستهلكين إلى بحث عن بدائل تخفف من قبضة المنتجين على أسواق النفط.
جاءت حصيلة الدورة الخاصة للأمم المتحدة عام 1974 وتمثلت بتفاهمات لعبت المملكة العربية السعودية دوراً مهماً في صياغتها وفي فعاليتها، وحافظت على مجراها المستند إلى إحساس المسؤولية تجاه احتياجات المستهلكين وبسعر يناسب قدرة المستهلكين في استيعابه، وينصف المنتجين.
يتحدث الأمير عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز وزير الطاقة السعودي عن قرب صياغة اتفاقية جديدة في منظومة أوبك، لرسم طريق التعاون والتنسيق لما بعد عام 2022، مشيراً إلى تذبذب أسواق النفط وضعف السيولة التي تؤدي إلى انطباع خاطئ، بينما الأسواق بحاجة إلى المزيد، كما أشار إلى أن مجموعة «أوبك بلس» أكثر التزاماً ولديها وسائل تمكنها من التعامل مع التحديات.
ومن يراقب التعامل السعودي مع شؤون الطاقة لا بد أن تتسرب إليه مشاعر اليقين بأن موضوع الطاقة يعالج بحس من المسؤولية، ناتج عن معرفة وطيدة بحقائق الطاقة، ومن أبرز محتوياتها أن العالم يفقر من دونها، وأن الطاقة سلعة تربط جميع أبناء المجتمع العالمي بمصير موحد، وأنها من أبرز ضروريات الحياة فلا غنى عنها، وهي ملك للأسرة العالمية، يتمتع المالكون لها بحقوق المنتجين ويوظفها المستهلكون من أجل الحفاظ على الازدهار والأمن العالمي، وهي سلعة تسعد المنتجين وترضي المستهلكين وتنشر عطاءها على جميع بقاع العالم، فقراء أو أغنياء، من الفاعلين أو من المتابعين.
بهذه الروح وبهذه الرقة عالجت دول الخليج مسارات الطاقة في حرص على تعاون الجميع بشراكة تضم مالكي الطاقة ومستهلكيها، مهما صغر حجم المستهلكين، وبهذا الحس الجامع نالت المجموعة الخليجية ثقة العالم وارتاحت الأسرة العالمية للثقافة الكونية التي ميزت دبلوماسية الخليج النفطية.
وعندما يتوجه الرئيس الأميركي إلى الرياض في هذه الظروف التي عقدتها عملية الغزو الروسي لأراضي أوكرانيا، فلا شك أنه يحمل معه ثقته وثقة الولايات المتحدة بأسلوب التعامل السعودي والخليجي مع قضايا الطاقة، واعتبارها سلعة عابرة للحدود من حق الأسرة العالمية التمتع بتواجدها، وبأسعار محتملة من الجميع لكي لا تنزلق الدول النامية إلى الاضطراب المعيشي وتهتز أحوالها، وبالإضافة إلى الكياسة في إدارة الطاقة.
تظل المملكة المنتج الوحيد القادر على ضخ المزيد من الطاقة إذا ما شعرت الأسرة العالمية بالحاجة إلى المزيد، ومرت المملكة بتجارب كثيرة أنتجت فيها أكثر مما تحتاج له وفاء لالتزاماتها تجاه الأمن والسلام العالميين، والحقيقة أن هذا الموقف المنشغل بتلبية حاجات الآخرين صار حقيقة ثابتة لدبلوماسية النفط الخليجية، وبهذا التوجه تتمتع دول مجلس التعاون بثقة العالم في تناولها لقضايا الطاقة، وحدتها خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، في أعقاب الدورة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة التي انتظمت في مارس 1974، وأسست لقواعد الثقة العالمية في دبلوماسية النفط الخليجية.
ومنذ تلك الدورة الاقتصادية عام 1974، ترسخت قواعد التعامل العالمية مع شؤون الطاقة معتمدة على الوعي المعتدل الذي تعالج به دول الخليج شؤون الطاقة، كما تعمقت جذور الثقة والاطمئنان للدول النامية والمتقدمة في الشراكة الإستراتيجية المتينة بين المستهلكين والمنتجين.
وأعتقد بأن حالة تبدلات أسعار الطاقة في طريقها للاستقرار وبما يريح جميع الأطراف، فالعالم ما زال يملك ابتسامة الاطمئنان لثقته في دبلوماسية النفط الخليجية.