رأي في الحدث

عبدالله بشارة: أمن الكويت.. وحروب روسيا

نقف، متابعين تصاعد القتال بين روسيا وأوكرانيا، فنبحث عن مسببات الحرب، فنصل إلى أن الحرب انفجرت بسبب الالتزام الوطني لقداسة الدولة الوطنية وتحصين سلامتها وصونها من أذى الخصوم، وكانت الشرارة الأولى كما يردد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، انطلقت من الخوف الروسي من تآمر قيادة أوكرانيا بمشاركة الدول الغربية للإضرار بسيادة روسيا وإضعاف أمنها وإذلال شعبها، وأن موسكو اتخذت قراراتها حماية لاستقلالها وحرمة ترابها وسلامة أراضيها.

ويكشف هذا الموقف الذي لجأ فيه زعيم روسيا إلى القوة المسلحة، عمق القداسة التي تتمتع بها الدولة الوطنية الروسية من زعمائها ومن شعبها، لكن هذا التقدير الروسي لم يلتفت إلى حقائق الشحنة الوطنية الصاعدة لدى شعب أوكرانيا، وتعامل معها باستخفاف وتصغير متأثراً بحقائق الماضي حين كانت فيه أوكرانيا جزءاً من الامبراطورية الروسية، ومتصوراً بأن الحملة العسكرية عملية تأديبية تستخلص منها قيادة أوكرانيا دروساً تراعي فيها عظمة الدولة الروسية، وكانت المفاجأة له بأن الغزو كشف عن صلابة التصاق الشعب الأوكراني بترابه والتزامه بدولته ونظامه، في مشهد يؤكد الولاء الجماعي للدولة الوطنية الأوكرانية، وستبقى الحرب مشتعلة ما لم يظهر زعيم روسيا اعترافه بحق الشعب الأوكراني في دولته الوطنية.

خرجت الدولة الوطنية إلى الحياة بمعانيها المعروفة، من حروب مدمرة شهدتها أقاليم هذا الكون، تحطمت فيها شعوب ودمرت فيها مدن تاريخية وراح من ضحاياها قدرات ومواهب بشرية وملايين من الناس، في مختلف مسارات الحياة.

جاءت البداية مع دمار أصاب معظم أقاليم أوروبا لاسيما الشمال منها، أقنع المتحاربون بضرورة وقف عملية الإبادة المتبادلة، والاعتراف بمفهوم الدولة الوطنية واحترام حدودها، تبلور هذا المفهوم في معاهدة «وست فاليا» 1648 التي حصنت الدولة الوطنية واحترمت إرادة شعبها ورسمت حدودها وأضفت على هذا المفهوم حق الاستقرار واستدامة الهوية الوطنية، ومن هذا الاعتراف نبعت الأحاسيس بالمواطنة وتوغلت معانيها داخل مختلف الشعوب.

تمتعت أوروبا بعدها بفترات تميزت بالهدوء، كانت فيها الدولة الوطنية قانعة بكيانات تتشكل من إمارات صغيرة، تعايشت مع امبراطوريات كبيرة، تمتد حدودها من وسط أوروبا إلى غربها، مثل ما كانت عليه الامبراطورية النمساوية، واستمرت الحالة على ما هي عليه حتى انفجار الثورة الفرنسية 1789، ومع بروز نابليون بونابرت وسيطرته على معظم أوروبا في الفترة ما بين 1800-1815، وغزواته شرقاً وغرباً وجنوباً، فلم تهدأ أوروبا إلا مع هزيمته في معركة «واترلو» عام 1815، بواسطة الائتلاف الأوروبي الجماعي، وعقد مؤتمر فيينا بقيادة «مترنيخ» زعيم النمسا، الذي ضم جميع الأطراف وجدد العهد الملتزم باحترام الدولة الوطنية ووقاية حدودها واحترام الولاء الشعبي فيها، واستمر هذا التفاهم الملتزم حتى الحرب العالمية الأولى، ويأتي مع نهايتها تشكيل هيئة عالمية تؤكد التزام الجميع بحدود الدولة الوطنية، ومنها ولدت عصبة الأمم المتحدة لتأمين سلامة الجميع، وسعت جدياً للاستقرار لكن إيطاليا كانت أول الخارجين على مبادئها بغزوها أثيوبيا، فبدأ التصدع الذي اتسع مع الحرب العالمية الثانية، ومنها قيام هيئة الأمم المتحدة وتحصين الوضع العالمي بإشراف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، الصين) عن طريق اللجنة العسكرية الدائمة التي رفض ستالين تفعيلها، وجمد صلاحية اللجنة، واستغلت كوريا الشمالية الموقف الروسي لغزو الجنوب، وتدخلت الصين لدعمها، وساندتها موسكو في هذا الغزو، وتحرك أميركا لتحفيز مجلس الأمن ليشكل قوة دولية تدعم الجنوب، ومن تلك المأساة طغت الحرب الباردة على العلاقات الدولية، وانقسم العالم، خاصة بعد أن سيطر ستالين على شرق أوروبا (بولندا، المجر، التشيك، وبلغاريا).

ونلاحظ أن جميع الأزمات الدولية جاءت من تطاول الدول القوية على حرمة وسيادة جيرانها، هكذا جاءت الحروب الإقليمية في آسيا وأفريقيا، وهكذا نعيش الآن مع حرب روسيا ضد أوكرانيا.

وكنا نظن بأن هذا الشعور الوطني والإفراط فيه هو من مظاهر الدول النامية، لكن الواقع لا يتقبل ذلك خاصة مع نظرة عابرة على ما يدور في أوروبا، وتصاعد الحذر في شرق أوروبا من اللاجئين، خاصة مع بروز مشكلة أوكرانيا، ومع تدفق المهاجرين من أفريقيا، وآسيا وصرخات الأحزاب اليمينية في هنغاريا وفرنسا وإيطاليا، مع إجراءات لوقاية الدولة الوطنية الأوروبية من هؤلاء القادمين بديانات مختلفة وثقافة معقدة وطموحات مزعجة.

رأيت نشر هذا المقال لتأكيد قدسية الدولة الوطنية لتأمين حياة مستقرة لشعبها، مع تأكيد ضرورات حسن الجوار وإبراز نزعة التفاهم لتعميق الأسس التي تضمن سلامة الإقليم وهدوءه، ومعارضة الطموحات التي تنبع من شهية الزعامات، مستذكرين الدروس التي أخذناها من كارثة الغزو العراقي ضد شعب الكويت ودولته.

ومن المفيد التذكير بأن نقاوة الأحلام الوحدوية بين الدول، والهيام فيها أصبح فصلاً تلاشى مع تصاعد الوعي الوطني، وتقديس الذاتية الوطنية، وتناقض الثقافات مع صلابة الهوية الوطنية ومقاومتها للذوبان، واستمرارها كعنوان لملامح الشعوب.

أستذكر المراحل التي مرت بها تجربة مجلس التعاون، فقد كان الحرص الجماعي على احترام الهوية الوطنية للدولة الخليجية بارزاً في المداولات مع مراعاة قدرتها في هضم شروط العمل الجماعي والاقتراب من هذه المهمة بالتدرج وفهم الحساسيات مع إبراز منطق التعاون الذي لا يعني الوحدة وإنما التلاقي في المواقف وتقريب وحدة المصالح، حيث كان أسلوب العمل في المجلس يرتكز على أربعة مسارات: الوحدة الاقتصادية، الأمن الجماعي، والتقارب الدبلوماسي، والترابط الثقافي.

ومع بداية الفصل الجديد في حياة البرلمان الكويتي، لابد من أن يكثف البرلمان اهتمامه بالبعد الأمني ويشارك في توفير البيئة السليمة بالتعاون مع الحكومة لبناء الردع المؤثر، مستذكراً أن موقع الدولة الكويتية الإقليمي يستدعي الحذر الدائم ويدعو لتأمين أدوات الردع الفاعل، ومن توافر هذا الردع الفاعل يتوافر للشعب الكويتي حسن العطاء..

وغير ذلك، ماذا تبقى من الترابط العربي سوى علاقات عربية ثنائية، يلتقي في إطارها المتقاربون من الزعامات العربية، فقد انتهى التضامن مع احتلال الكويت وعجز نصف العرب عن إدانته، وتلاشت الأحلام عن اتفاقية الدفاع المشترك، ويبقى الخيار العقلاني والواقعي هو التعاضد العربي-الإقليمي، فمن وحي مسيرة مجلس التعاون يمكن لدول شمال أفريقيا، المغرب والجزائر وتونس، بناء الإطار المغربي، دون التحليق في فضاء الوحدة أو الاتحاد، ويكفي التعاضد الاقتصادي- الثقافي حتى يعطي ثماره، ومصر والسودان وليبيا وحدة الجغرافية وقاعدة جماهيرية متقبلة، والعراق وسوريا والأردن ويلحق بها لبنان في حلقة التعاضد والتكامل التجاري والاقتصادي، ويبقى اليمن بعلاقات خاصة مع مجلس التعاون.

لن ينجح أي مشروع عربي قائم على تصورات وحدوية أو انخرط بمفردات التوحد والاندماج وتحمس لها، فالدولة الوطنية العربية مثل غيرها تعاظمت عروقها وحلقت في الجو العالمي متداخلة ومترابطة بالمصالح وبالأمن والتوجه المستقبلي في صيغة تحالفات ليس فيها ضخامة الأوهام والأحلام، ولكن قاعدتها تبادلية المصالح.

فالعالم يتحرك في جميع خطواته عبر الدولة الوطنية ورضاها، كما نراها في حلف الناتو أو مجلس التعاون، أو الاتحاد الأفريقي، فلا تتوافر صيغة تعاونية قادرة على الالتفاف على هذا الواقع.

ولعل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الاحتلال الروسي لأراضي أوكرانيا بشبه إجماع يلخص موقف المجتمع الدولي في رفضه وإدانته للغزو الروسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى