عبدالله بشارة : الصين الزاحفة.. على رمال الخليج
في العاشر من ديسمبر 2022، تم لقاء القمة بين دول مجلس التعاون وجمهورية الصين الشعبية، بعد أن التقت الصين في لقاء ثنائي اقتصر على قادة المملكة العربية السعودية، وبعد مجلس التعاون اتسع اللقاء بضم الدول العربية والصين، ويهمني في هذه اللقاءات إبراز محطات الالتقاء بين الصين ودول مجلس التعاون، ونقاط التباعد، وسأبدأ مستذكراً تجربتي الشخصية مع الصين، سواء في الأمم المتحدة أو في مجلس التعاون.
في فبراير 1979، جاء الدور على الكويت لترأس مجلس الأمن، وفق التدوير الشهري للرئاسة، كانت أجواء نيويورك باردة جداً تغطي الثلوج شوارعها التي أعاقت السير، وحدث في تلك الفترة صدام العملاقين، موسكو والصين، حيث بدأت الصين بعبور حدود فيتنام واحتلال شريط حدودي من أراضي فيتنام، رداً على غزو فيتنام لأراضي كمبوديا التي تدعمها الصين.
وأتذكر منظر تجمعات الوفود التي تريد متابعة مداولات المجلس حول الموضوع حيث امتلأت قاعة المجلس لمشاهد المناطحة بين الطرفين، فالاتحاد السوفيتي يتبنى مواقف فيتنام، والصين تدعم كمبوديا، والاثنان عضوان دائمان في المجلس بقوة الفيتو التي تنسف جميع جهود التوافق.
والمهم أنني كرئيس للمجلس، لشهر فبراير 1979، استدعيت سفير الصين وأبلغته برغبة الدول الأعضاء عقد جلسة فيها تنديد لمواقف الصين، وفيها مجال للاتحاد السوفيتي لكي يخرج كل ما لديه من تهم يكيلها لعدوانية الصين، وكان الرد أن الصين لم تغزُ فيتنام وإنما أعطت فيتنام ضربة تأديبية على الخد فقط، ويعني باللهجة الكويتية (مجرد طراق على الويه) مع توسلات منه بتأجيل اجتماعات المجلس.
كان موقف الصين تخفيف منظر الغزو مع وعود بالانسحاب، لكن المجموعة الغربية في المجلس أصرت على عقد الجلسة وكل طرف يتحمل مسؤوليته، ومن خبرتي في التعامل مع الصين هناك صعوبة في تخمين حقيقة المواقف الصينية، فلا الابتسامات ولا التعقيدات على الوجوه توفر خيطاً يوصل المدقق إلى الحقيقة، فالوجوه لا تخون المشاعر ولا أحد يعرف محتواها.
ومع تواصل تساقط الثلوج، ادعى السفير الصيني عندما دعوته لزيارتي في مكتب الرئاسة في مبنى الأمم المتحدة، بأن الوفد لا يملك سيارة مناسبة لأجواء الثلوج في شوارع نيويورك.. المهم أن الدول الغربية في المجلس (الولايات المتحدة، وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) أصرت على عقد الجلسة، التي عقدناها في آخر آيام فبراير 1979، في مجابهة بين فيتو روسي ضد قرار طرحته شخصياً لإدانة فيتنام بسبب غزوها لكمبوديا، وفيتو صيني ضد إدانتها لغزوها أراضي فيتنامية، وكانت ملكية الفيتو الروسي والفيتو الصيني تلوحان بقتل المشروع الذي أعددته ضد الطرفين.
وخرجت من تجربتي في الأمم المتحدة مع الصين بعدم الاعتماد على ما يقوله الوفد، لأن الحقيقة دائماً تغطى بضبابية تؤذي الباحث عن الحقيقة، وآمنت بصعوبة التدقيق لأن السلوك الصيني لا يسمح بالإطلالة – ولو بجزء صغير – على الحقيقة.
كان موقف الصين مع الغزو العراقي قوياً في دعم الشرعية الدولية، والالتزام بقرارات المجلس التي كانت تحت البند السابع الذي يعتمد التدخل العسكري، كان موقفاً صلباً لم يتأثر بالإغراءات أو الطروحات العراقية.
وعندما توليت مسؤولية الأمانة العامة لمجلس التعاون تحولت الاهتمامات من ملفات سياسية نتابعها في الأمم المتحدة، إلى مسعى لاتفاقيات تجارية قد تؤدي إلى اتساع في حجم التجارة، كما قام وزير خارجية الصين، أثناء الغزو، بزيارة إلى مقر الأمانة العامة في الرياض في تأكيد على رفض ادعاءات العراق وتقوية الروابط مع دول الخليج، كما ترأست، بعد التحرير، وفداً إلى بكين من أجل إطلاق مفاوضات تجارية بين المجلس والصين.
وكانت الصين، في تلك الفترة، تتحرك نحو ثلاث مسارات، علاقاتها مع واشنطن والدول الغربية فيها الحذر والتردد والخوف من المفاجآت، وانفتاح مع الدول النامية لاسيما أفريقيا وآسيا، وعقد اتفاقيات ثنائية مع مختلف هذه الدول تبني الصين فيها موانئ وبنية تحتية تحمل مؤشرات الاستراتيجية الصينية في التنوع وفي الوصول إلى أبعد المناطق، وقد نجحت تلك الاستراتيجية في نقل الصين من جغرافيتها الآسيوية إلى مختلف مناطق أفريقيا وآسيا، ونحن في الخليج نتابع ما تبنيه الصين على سواحل باكستان من منشآت تضمن لها الوصول إلى شمال الخليج بكل سهولة..
ومع تعاظم الدور الصيني في بناء البنية التحتية لعدد من الدول الآسيوية والأفريقية، تطورت دبلوماسية الصين، فقد أنهت مظاهر السلبية التي رافقت وجودها في مجلس الأمن، وطوت صفحة عدم المشاركة، ويعني ذلك أن الصين، الدولة الدائمة في مجلس الأمن، ليس لها موقف محدد من قضايا الأمن والسلام العالميين، وخلق ذلك الموقف إشكاليات في جدارة الصين التي لا تستطيع أن تتخذ موقفاً، مع أنها دائمة العضوية، وطوت الصين ذلك الملف وصارت طبيعية في سلوكها تجاه الأحداث التي يناقشها مجلس الأمن، لكنها لا تزال تبتعد عن المبادرة فلا تقدم صياغة لقرارات ولا تعمل مع التجمعات داخل مجلس الأمن، وإنما تراعي دول عدم الانحياز وتقدر دورها في بناء الجسور داخل المجلس، لكنها مستمرة في المراقبة والصمت والابتعاد عن المبادرات.
ومع ذلك فإن زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض ولقاءه قادة الخليج ثم قادة العرب لهما معان كثيرة، فإذا كانت للصين علاقات متينة مع دول شمال أفريقيا ومصر وسوريا والعراق فإن الأهم لديها هو طريق الخليج حيث تأتي الصين الثانية في القوة الاقتصادية العالمية، لكن معاني نزول القائد الصيني إلى الرياض – عاصمة مجلس التعاون- يفتح الأبواب للخليجيين، للاستماع إلى ما تريده الصين وما تهدف إليه من وراء الاهتمام غير العادي بالتواجد في المنطقة.
لا تريد الصين قواعد بحرية، فلها ما يكفي من قواعد على سواحل باكستان، لكنها تريد ضمان تدفق الطاقة إلى أسواقها بعد أن تحولت أسواق الصين إلى أكثر الأسواق عطشاً للنفط وأحوجها لاستمراره مع غرس الترابط التجاري وتأمين مجرى الطاقة دون تقلبات، لأن الصين تبتلع حجماً مهماً من الطاقة يتوافر بغزارة في دول الخليج.
وقد شدني موقف الصين حول ما جاء في البيان الختامي الصادر من القمة الخليجية-الصينية، حيث جاءت الدعوة قوية نحو العراق الاحترام سيادة دولة الكويت وحرمة أراضيها والالتزام بقرارات مجلس الأمن لاسيما القرار رقم 833 والاتفاقيات المبرمة بين البلدين، والمودعة لدى الأمم المتحدة مع استكمال ترسيم الحدود البحرية مع الكويت.
وكما يشير سمو ولي العهد الشيخ مشعل في خطابه إلى أهمية التوافق بين الطرفين على حل القضايا الإقليمية والدولية مع تأكيد تعزيز التعاون في كل المجالات المختلفة الحيوية والمهمة، ولا شك بأن الوفد الصيني ارتاح كثيراً من تأكيدات دول مجلس التعاون على تأكيد موقفها من فرموزا باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الصين وتعارض ميولها نحو الاستقلال، كما ارتاح جداً للالتزامات الخليجية بتوفير الطاقة للصين على قاعدة الاستمرارية بلا توقف.
ولا ننكر بأن موقف الصين خلال الغزو كان عاملاً مهماً في افشال الدبلوماسية العراقية في إغراء الصين نحو مواقف ترضي عنجهية صدام حسين، وقد أخبرني وزير خارجية الصين في زيارته إلى الأمانة العامة في بداية فبراير 1991، بأن صدام حسين شبه الكويت بجزيرة فرموزا وأن الوزير الصيني رفض هذا التشبيه وأكد أن الصين تعترف باستقلال الكويت وتعارض ادعاءات العراق.
كسبت الصين من تواجدها في الخليج، في ضمان علاقات طبيعية مع دول الخليج منسجمة مع مبادئ الأمم المتحدة، وفي إقليم ظلت علاقاته التاريخية مع دول الغرب، وجاءت الصين في إطلالة تحترم سياسة دول الخليج،، وتعمل على تأمين بحري لمجرى الطاقة، وفق استراتيجية (الحزام والطريق) التي لها دور في بناء المنطقة الاقتصادية الشمالية، بالإضافة إلى دعم سياسي من الخليج لحقوقها التاريخية في جزيرة فرموزا، مع انفتاح تكنولوجي سيفيد دول الخليج، كما يوفر سوقاً لصادرات الصين.