عبدالله بشارة : المملكة بنظام اقتصادي جديد.. والخليج يتابع
كلنا نتابع تجليات الإصلاحات في المملكة العربية السعودية التي يديرها سمو الأمير محمد بن سلمان، ولي عهدها، بكل ترحيب، مدركين تأثيرها القوي والإيجابي في دول مجلس التعاون، متوقعين أن يتولد منها نظام اقتصادي واجتماعي خليجي جديد، يمنح دول الخليج مساراً حديثاً يختلف عن المسار الذي تبنته منذ تدفق النفط من تربتها في منتصف القرن الماضي.
وبكل أمانة أشعر شخصياً بأن المملكة تعرض لنا كمواطنين خليجيين صيغة التحرر من ألقاب ثقيلة تطلقها الدول الأوروبية، بما فيها الولايات المتحدة، بحصر هوية الخليج كمنابع لتصدير النفط، السلعة الإستراتيجية النادرة التي تؤمن للاقتصاد العالمي استمرار الحياة.
ومن واقع نفوذ النفط على الاقتصاد العالمي، جاء قرار مقاطعة تصدير النفط إلى الولايات المتحدة تعبيراً عن استياء دول الخليج وبالذات المملكة من الموقف الأميركي الناشف تجاه موضوع فلسطين وإفرازاته.
كانت الدول الغربية تصف الخليج بدول السيولة – liquidity States، دول الوفرة المالية من عطاء النفط الذي اكتشفه واستخرجه الغرب واستمتع بحصيلته الجميع، لا سيما أصحاب الأرض، ورافقه قلق الغرب من النفوذ الذي تملكه دول الخليج لسطوتها على السلعة النادرة.
أبعاد الندرة، مفهوم صنعته ضرورات النفط للجميع، ومنحته لدول الخليج التي استذوقت قوة الندرة – Power of Scarcity، وهو مفهوم جديد وفر لدول الخليج مقاماً استثنائياً خلال اجتماعات الأمم المتحدة في السبعينيات عندما طرح رئيس جمهورية الجزائر الهواري بومدين صيغة نظام اقتصادي عالمي جديد ينصف الدول النامية.
عشت هذه الفترة في السبعينيات من القرن الماضي كمندوب الكويت في الأمم المتحدة، ولا أنفي أنني استمتعت بما وفرته لنا قوة الندرة التي التصقت بدول الخليج، والتي جعلت العالم يحرص على سلامتها ويسعى إلى تأمين دورها كمصدر يعتمد عليه للطاقة من دون الاهتمام بحق الخليج في الخروج من أثقال الاعتماد على مصدر واحد للحياة، خصوصاً أن الطاقة سلعة تتلاشى مع كثافة الاستهلاك العالمي.
شهدت قاعات الأمم المتحدة أجواء مضطربة تسيدها الخوف من مواجهات لتأمين الحصول على النفط باللجوء إلى القوة، كما تصاعدت لغة الاستخفاف والاستنكار نحو دول الخليج في منع بعض الدول المتقدمة من الحصول على النفط مع إعلام أميركي ينقل ما يدور داخل مجلس الشيوخ الأميركي من لغة يعلو فيها صوت التهديد والوعيد.
كان منطقنا في الرد، حق دول الخليج في تنوع مصادر دخلها والتخلص التدريجي من وضعها كموقع لتصدير الطاقة إرضاء لحاجة الدول المتقدمة.
ومن ذلك المناخ غير الصحي الذي جمع دول العالم في مبنى الأمم المتحدة جاء تصنيف دول الخليج كدول ريعية وهي دول سيولة Cash-States، جمعتها من مصدر النفط الذي اكتشفه واستخرجه وسوقه الغرب.
ولم يكن هذا السيناريو مريحاً لنا، خصوصاً وقد برزت لنا الأثقال السياسية التي يسببها النفط للمصدرين الخليجيين، وقد أدركت المملكة العربية السعودية حتمية التخلص من المتاعب السياسية والنفسية التي تأتي من الاعتماد على مصدر وحيد للدخل، فدشنت نظاماً اقتصادياً جديداً يقلل من الارتكاز على الطاقة ويخرجها من الأسر الذي يقيد تحركها، وقررت أن تتبنى أسلوباً جديداً لحياتها يختلف عما اعتاد عليه المجتمع السعودي، وتعايش معه منذ ولادة الدولة السعودية الأولى.
جاءت المبادرة السعودية تحمل شعلة التصميم على بناء ممر اقتصادي حديث، يفتح جميع الأبواب لدول النفط، التي تتنفس من رئة النفط الوحيدة مع التحول للاستفادة من جميع الموجودات من سلع وموارد في باطن الأرض، وكذلك من مخزونها البحري، مع استغلال التنوع في طبيعتها، يرافقه العزم على ترويض المخاطر التي قد تبرز من عملية التخلص من قيود المنبع الواحد، وتسخير الأراضي الشاسعة لمتطلبات التنمية، لاح فيها دور السياحة ومجالاتها الواسعة من آثار وشواطئ ومدن تاريخية، وتراث الحضارات التي تسيدت فضاء المملكة العربية السعودية، ولا شك في أن النظام الجديد سيجدد ملامح المملكة ويزيدها جمالاً ويعزز جاذبيتها.
ويلاحظ في هذا التجديد السعودي الثوري متانة التصميم القيادي على إزالة العقبات مع سرعة الإنجاز والتعبئة الجماهيرية الترحيبية بالقادم الجديد مع جرأة في مواجهة العراقيل، فلم تتخوف القيادة من رفض شعبي للمستجدات، ولم يضعف تصميمها على التغيير، ولم يأت على بالها مقاومة أهل النفوذ والمكانة، فقد استعدت القيادة السعودية لكل الاحتمالات ووجهت لجميع أبناء الشعب ضرورة التخلي عن ممتلكات تم الحصول عليها من فائق القوة وجسارة النفوذ.
قادت السلطة السعودية، ممثلة في سمو الأمير محمد بن سلمان وبدعم من الملك سلمان بن عبدالعزيز، المأمورية التاريخية بصلابة وحزم وقناعة وإيمان بأن فضاء المملكة لم يعد يتحمل الاستمرار بتقاليد تلاحقت منذ ولادة الدولة السعودية الأولى، وقيدت هذه التقاليد طاقات فكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وشلت دور المرأة وأغلقت منافذ الاستفادة من مخترعات التكنولوجيا وتطورات الصناعة وإبداعات العلم ومستجدات المعرفة ومحدثات الطب والفضاء.
لم تعد المملكة قادرة على الاستمرار على قواعد الدولة السعودية الأولى، ورسمت القيادة نهجاً تتبنى فيه المملكة نظاماً اجتماعياً جديداً يستفيد من محتويات التقاليد القادرة على التناغم مع الجديد من القواعد الحديثة، التي تقوم عليها الدولة السعودية المنفتحة على الإبداعات في التكنولوجيا وعلم الفضاء وتقلبات المناخ ومخاطر الأمراض العابرة على الحدود ونقص في الغذاء والدواء، وتسعى إلى الانسجام مع المستجدات المفيدة التي تسبح في فضاء المجتمع العالمي.
وأجزم بأن جميع دول الخليج ستلحق بركب التطور الاقتصادي الذي بدأته المملكة، وستسعى لاستيعاب الجديد وستزيل التردد والتحفظات، فديناميكية التغيير ستفوز بهذا الصراع، ولأن طبيعة التقاليد الخانقة لا تصمد أمام الرياح التي تحملها أعاصير هذا الزمن.
ونلاحظ أن هذا التجديد السعودي في مجالات الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل يحظى بالتزام قيادي مستمر، لإزالة العقبات وتأمين سرعة الإنجاز مع التعبئة الجماهيرية الترحيبية بالقادم الجديد، مع جرأة قيادية نادرة لإزالة والتصدي للعراقيل.
ومن دون شك في ان موجات التجديد في الاقتصاد السعودي ستصل إلى اقتصادات دول الخليج وستبدل هيكلتها، كما برزت اهتمامات في دولة الإمارات تبنت علوم الفضاء واستوعبت ضرورات التكنولوجيا وبذلت جهداً لتوطينها، واستغلتها للتوسع في السياحة وآليات الترفيه، وندرك سرعة القرار في قطر وقوة التصميم على الانفتاح واستيعاب المستجدات، كما برزت تبدلات في تنويع مصادر الدخل في السلطنة، ونعلم بقدرة البحرين على التجديد، وسرعة تأقلمها مع التبدلات العالمية في التجارة والاقتصاد.
وهناك ملاحظة لا يمكن تجاهلها، تتعلق بما ستفرزه هذه الخطوات الواسعة في مجرى الاقتصاد والحياة الاجتماعية، وما تسببه من احتكاك الجديد القادم بالقديم من القيم الخليجية المتوارثة، فسيبقى من التراث الكثير القادر على التأقلم وسنرى بعض الجديد يأخذ مكان القديم ممن وهنت مقاومته، وهذه حال الدنيا.