جعفــرعبـــاس : احذروا مصير هرفي
كما ان اول الغيث قطرة، فإدمان القهوة يبدأ برشفة، وإدمان السجائر يبدأ بـ«نفس»، وإدمان أي شيء يبدأ بـ«غواية»، ففي لحظة معينة يكون الإنسان مهيأً لقبول أشياء ما كان ليقبل بها في لحظات وظروف أخرى: خذ كاس يعدل مزاجك!! شمة واحدة من هذه البودرة وتنسى الماضي والآتي، وهكذا قد تؤدي الكأس الأولى إلى الكأس الثالثة بعد الألف، والشمة الأستيكة/ المحاية التي تمسح الماضي وتجعل الحاضر ضبابياً، قد تحولك إلى «شمام» محترف، وتفشل جهودك وجهود أهلك في محو تأثير المادة التي تعاطيتها كي تمحو وتنسى أشياء معينة.
والإدمان لا يكون بالضرورة لأشياء محرمة دينياً أو حتى ضارة صحياً، إنه في أبسط تعريفاته نوع من الاعتياد على تعاطي شيء معين بحيث يصبح الإقلاع عنه عنتاً ومشقة عضوية أو نفسية. وعن تجربة فإنني أعرف أن خلع الضرس بدون بنج أسهل من الإقلاع عن تدخين التبغ العادي، فالأمر ليس ببساطة: أطفئ السيجارة التي بيدك وتخلص مما عندك من مخزون التبغ و«خلاص». فالخلاص من التبغ مشكلة عضوية قبل أن يكون مشكلة نفسية، لأن النيكوتين الذي تشفطه مع التبغ، يصبح جزءا من كيمياء جسمك، وكلما انخفض منسوب النيكوتين في دمك أحسست بالحاجة الى إشعال سيجارة، بل أثبت العلم أن الإقلاع عن المخدرات العشبية التي توصف بالخفيفة (الحشيش والماريوانا – وهذه وليست الماريجوانا هي التسمية الصحيحة لهذا المخدر) أسهل من الإقلاع عن تدخين التبغ العادي.
أنا شخصياً مدمن شاي وعلى استعداد لشرب عشرة أكواب من الحجم الكبير منه يومياً، ورغم أن الشاي مفيد للجسم إلا أنني لست مرتاحاً لكوني «أدمنه» فالمدمن مُستعبّد، فأبسط تعريفات الإدمان هو أن يكون الشخص عبدا لعادة أو ممارسة. ومع هذا فإن جميع أشكال الإدمان كوم، وإدمان المخدرات كوم آخر، فمدمن المخدرات يتحول إلى شخص ماكر وغادر حتى تجاه أقرب الناس إليه، وفي الصحف حكايات شبه يومية عن مدمنين يقتلون آباءهم وأمهاتهم من أجل دريهمات يشترون بها جرعة واحدة من المادة التي يدمنونها.
سأحكي لكم اليوم حكاية جون هيرفي سليل أسرة ارستقراطية بريطانية ويحمل لقب ماركيز، وكان يقيم في بيت يتوسط أرضاً زراعية مساحتها 30 ألف إيكر (الإيكر الواحد نحو 400 متر مربع) في مقاطعة إيست انجليا بإنجلترا، وحتى قبل سنوات قليلة كان الكاش الذي في حسابه المصرفي نحو خمسين مليون دولار. ومات هرفي عن 44 عاماً بعد حياة حافلة بالفرفشة والسفر إلى مختلف المصايف الجميلة. مات بعد أن تعطلت عنده وظائف الكبد والكلى والرئة دفعة واحدة! والسبب هو الكوكايين والهيروين. وبعد موته اكتشف أقاربه أنه لا يملك في حسابه حتى ما يغطي نفقات جنازته. يعني باع بيته وكل تلك المساحات الشاسعة من الأراضي، وباع التحف والأناتيك التي توارثها أفراد أسرته عبر القرون، وكما يحدث لكل السفهاء فقد انتهى الأمر بجون هيرفي في سنواته الأخيرة وهو يدفع أجرة شهرية ليقيم في جزء بائس من المزرعة الضخمة التي ورثها عن أجداده. ثم عجز عن سداد الأجرة فتم طرده بقوة القانون.
والشاهد أن إدمان المخدرات يجرد الإنسان من القيم والمثل، وهكذا اضطر هذا «النبيل» الذي كان يحمل لقب لورد بريستول إلى تهريب المخدرات ووقع في قبضة الشرطة ودخل السجن. وإذا رجعت عزيزي القارئ إلى مساحة الأرض التي كان هيرفي يملكها ووضعت لها قيمة تقديرية فستعرف أن الرجل الذي مات وعمره 44 سنة بدد بسبب المخدرات أكثر من مليار دولار!! لماذا سردت عليكم حكاية هذا الرجل الذي رحل عن الدنيا غير مأسوف عليه؟ فعلت ذلك كي تدرك أن الحكايات الطريفة التي تسمعها عن المساطيل تخفي مآسي بشعة، وإذا كنت تود الإسهام في مكافحة المخدرات فلا تردد نكات المساطيل والحشاشين لأن تلك النكات توحي بأن المخدرات تجلب الانبساط وتجعل من يستخدمها خفيف الدم والظل.