جيما أبا جيفار.. مدينة إثيوبية نهض بها ملك مسلم وسميت باسمه
مدينة جيما بإقليم أوروميا غربي إثيوبيا، مدينة تتميز بطابع تاريخي إسلامي، وتتمتع بكنوز الطبيعة ومناطقها الأثرية حيث قصر أبا جيفار آخر الممالك الإسلامية. وفيها متحف عتيق شاهد على عمق الحضارة التي احتفظت بها المدينة لأكثر من 190 عاما، إضافة إلى شهرتها بالبن والعسل والأخشاب.
الموقع
تقع مدينة جيما إحدى أهم وأكبر مدن جنوب غرب إثيوبيا مساحة وسكانا، على بُعد 348 كيلومترا عن العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
وتستمد أهميتها من موقعها الإستراتيجي على طريق القوافل التجارية بين ممالك الحبشة قديما، إذ تربط بين جنوب وغرب إثيوبيا، إضافة إلى طقسها المعتدل دائما.
وتقع جيما على ارتفاع 5740 قدما (1750 مترا) في منطقة مغطاة بغابات البن وأشجار الفواكه.
السكان
يسكن في مدينة جيما أكثر من 3.4 ملايين نسمة، من مختلف القوميات والشعوب الإثيوبية، وعلى رأسهم “الأورومو”، إضافة إلى الهنود والإيطاليين واليمنيين وغيرهم.
ولاتزال المدينة تحمل الطابع الإسلامي، وآثاره ظاهرة على سكانها، الذين عرفوا الحرف اليدوية منذ القدم، وتفننوا في صناعة الأدوات المنزلية من الخشب، كما تميزوا بصناعة الملابس القطنية والجلدية التقليدية.
ويعمل معظم مشغلي المشاريع الصغيرة في الصناعة بنسبة 31.7%، والتجارة بنسبة 26.8%، والخدمات بنسبة 22%.
ويعتمد النشاط الاقتصادي للمدينة بشكل أساسي على الصناعات والحرف، إلى جانب البناء بنسبة 12.2%، والزراعة الحضرية بنسبة 7.3%.
والمدينة التي نشأت في مطلع القرن التاسع عشر على يد الملك أبا جيفار؛ تشهد نقلة صناعية توجت بافتتاح أكبر مدينة صناعية غربي إثيوبيا.
وغرض المدينة الصناعية توظيف موارد جيما من الجلود، وصناعة الأقمشة القطنية، بهدف تطوير المشغولات اليدوية.
وتشتهر جيما أيضا بالعسل والبن والمواشي والمنتجات الخشبية والمعادن، والمنتجات الزراعية الأخرى.
التأسيس
تعود نشأة مدينة جيما إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، قبل أن تصبح عاصمة سلطة أبا جيفار، آخر ملوك المملكة الإسلامية التي انتشرت منها تعاليم الإسلام الحنيف، ليضع فيما بعد المستعمر الإيطالي يده على المدينة، مستفيدا من مكانها القديم على نهر “أويتو”.
ويقول عالم الآثار الإثيوبي ومدير متحف جيما نجيب رايا، إن اسم جيما مشتق من عشيرة “ميجا أورومو”.
وكانت هذه العشيرة قد بدأت حياتها في 3 مناطق (جيرين – هيرماتا – مندرا)، قبل أن تصبح مملكة جيما في عام 1790 إحدى ولايات جيبي الخمس.
وفي عهد الملك أبا جيفار الأول توسعت المدينة، بعد أن حول تجارته من “مانا” إلى “جيرن” للسيطرة على سوق هيرماتا المتنامي.
وفي عام 1830 أُطلق عليها “جيما أبا جيفار” آخر ملوك الممالك الإسلامية في الحبشة، وشكلت أكبر وأقوى مملكة إسلامية بين 5 ممالك شكلها الأورومو، في منطقة جيبي جنوب غرب إثيوبيا.
وتابع ريا أن “الملك أبا جيفار الثاني وسّع إدارته للمدينة وشيد مسجدا وقصرا على تلال قرية جيرين، قبل 130 عاما، متخذا منها مقرا للحكومة ومركزا للإدارة”.
وأشار إلى أن المدينة الحالية طُورت على نهر أويتو، من قبل الاستعمار الإيطالي إبان الفترة ما بين 1936 و1941.
واتخذ الإيطاليون منها مركزا لإدارة الأجزاء الإقليمية الغربية من إثيوبيا، وشيدوا معظم الطرق الرئيسية الحالية والمطار، وأعدوا أول خارطة رئيسية للمدينة في عام 1937.
وبعد هزيمة الإيطاليين، اختارت الحكومة الإثيوبية مدينة جيما عاصمة لمحافظة كافا في أواخر عام 1941، وصدر مرسوم بتأسيس بلدية جيما وتضم (بوسا، هيرماتا، مندرا، وجيرين) حتى عام 1988.
وبعدها شُكلت 12 منطقة إدارية عرفت بمناطق غرب إثيوبيا، تدار من بلدية جيما، المكونة من 3 مدن فرعية و18 حيا رئيسيا.
أهم معالم مدينة جيما
يوجد بجيما العديد من المناطق التاريخية والأثرية والسياحية، كمنطقة تشوشي التي اكتشفت بها بذرة القهوة الإثيوبية.
وهناك أيضا منطقة بشاشا، مسقط رأس رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وآخرين من القيادات السياسية اليوم، بينهم وزيرة العمل والابتكار مفريات كامل، التي سبق أن تقلدت كذلك وزارة السلام ورئاسة البرلمان الإثيوبي، وكانت أول سيدة تتقلد المنصب حينها.
وبالإضافة إلى ذلك، توجد منطقة بلطي المعروفة بشلّالاتها وجمال طبيعتها والمغطاة بالغابات الكثيفة، على امتداد 3 مناطق في غرب إثيوبيا، والتي تعيش بها الحيوانات المتوحشة مثل الأسود.
وتتميز بلطي أيضا بتنوعها البيولوجي والنباتي بجانب غابة البن الطبيعي الإثيوبي، وتضم شلالات نهر جيبي، وغيرها من الآثار الإسلامية والمعالم التاريخية.
قصر أبا جيفار
يعد قصر الملك أبا جيفار بمدينة جيما، أول قصر بهذا الحجم في تاريخ إثيوبيا، ويقع ضمن آثار آخر الممالك الإسلامية فيها، ويتضمن معالم أثرية أخرى أصبحت وجهات سياحية للمنطقة.
ويقع القصر على بُعد 7 كيلومترات من المدينة، وقد شيد على ارتفاع 2020 قدما، ويطل من جبل بمنطقة “جيرين”.
وكان القصر مقرا سياسيا وإداريا للملوك الذين تعاقبوا على حكم المملكة، وإن كان للملك 4 قصور أخرى، فإن قصر أبا جيفار يعد الأهم والأكبر.
ويقول عالم الآثار نجيب رايا “إن أبا جيفار اختار هذه المنطقة الجبلية للسيطرة على مركز التجارة، ولمتابعة ورصد جميع الأنشطة من داخل القصر والوقاية من الأمراض المعدية التي انتشرت في تلك الفترة”.
والقصر الذي شيد في سبعينيات القرن الـ18، أشرف على تصميمه المهندس الهندي تكام تاليموشي، وسبق تشييده بناء مسجد داخل سوره، اتباعا لثقافة شعب جيما التي تركز على بناء المسجد بجانب المنزل وتعطيه الأولوية.
والقصر المحصن بقلعة ذات 4 بوابات للرصد والمراقبة، يتكون من 29 غرفة و54 شباكا و65 بوابة، بجانب مسجد كبير، والعديد من المرافق بينها غرف مخصصة للنوم وصالة الوجبات واستراحة الضيوف.
الملك أبا جيفار
والملك أبا جيفار، الذي شيد له القصر، اسمه محمد بن داود بن علي بن دِنْغِلا، وقد ولد سنة 1863.
وحفظ القرآن في سن مبكرة على يد والدته، ومن ثم درس التوحيد والفقه، حتى أصبح ملكا لجيما عام 1878 خلفا لوالده داود بن علي المعروف بـ”أبا غمول”، الذي كان ثامن ملوك جيما الإسلامية.
ويقول الأكاديمي والمؤرخ الإثيوبي البروفيسور آدم كامل إن الملك أبا جيفار عرف بقوة انتمائه للإسلام والعمل من أجله، وبحبه للعلم والعلماء وبسياسته التنموية التي أسهمت في تحويل جيما إلى منارة ثقافية واقتصادية”.
وأشار كامل إلى أن الملك كان له تواصل مباشر مع الدول العربية، منها المملكة العربية السعودية ومصر وعُمان وغيرها.
متحف جيما
ولم يكن قصر أبا جيفار وحده هو المعبر عن تاريخ وحضارة مدينة جيما، فهناك المتحف القومي الذي يتوسط المدينة، وبه العديد من الكنوز والمقتنيات الإسلامية.
ويعد من أقدم المتاحف في البلاد وأكثرها ثراء، ويحتوي على مجموعة متنوعة من القطع الأثرية، تجاوز عددها ألفي قطة أثرية من العصر الذهبي لمنطقة جيما، وهو ما بين عامي 1941 و1950.
وكان التاريخ الرسمي لميلاد المتحف قد بدأ في عام 1980، في عهد نظام “منغستو هايلي ماريام”.
وأرجع مدير متحف جيما نجيب رايا، بداية المتحف لعام 1974، موضحا أن افتتاح معرض “كافا”، الذي شارك فيه الإمبراطور هيلا سلاسي وملكة هولندا جوليان، لفت انتباه قادة البلاد إلى التراث وأهميته في تلك المنطقة.
وتعود الآثار الموجودة في المتحف إلى أكثر من 125 عاما، عندما أهدى السلطان أبا جوبر ابن أبا جيفار جميع المقتنيات، وأمر بالحفاظ عليها داخل متحف وطني، وبعد ذلك التوجيه السلطاني تم تجميع كل القطع الأثرية في مكان واحد.
مسجد “أفورتما”
ومن المعالم والآثار التاريخية بالمنطقة مسجد “أفورتما” وسط جيما، أول مسجد أقيمت فيه صلاة الجمعة قبل 190 عاما، وكان له دور في تعليم القرآن الكريم وعلومه.
والمسجد الذي أطلق عليه “أفورتما” وتعني (الأربعين) بلغة قومية الأورومو، أكبر قوميات إثيوبيا، كما استمد اسمه من اجتهاد فقهي يقول إن أقل عدد تُقام به صلاة الجمعة هو “أربعون رجلاً من أهل وجوبها مع الإمام”، وذلك في عهد الملك السادس الملك أبا بوقا عم الملك أبا جيفار.
وظل مسجد أفورتما وجهة لطلاب ودارسي العلوم الشرعية وتعاليم الدين الإسلامي، وقال كامل إن الملك أبا جيفار كان يفاخر ببناء المساجد ويعود له الفضل في بناء نحو 300 مسجد بالمنطقة.
وتابع المؤرخ الإثيوبي آدم كامل “بعد إنشاء المسجد تم جمع 40 عالما دينيا من مختلف مناطق البلاد (أرسي بالي، وهرر وولو، وتيغراي)، وعلماء من الجزائر والسعودية، وذلك في عهد الملك أبا جيفار، وأصبح المسجد قبلة لكبار العلماء والتجار من مختلف مناطق إثيوبيا، خاصة شمال البلاد”.
وعن الدور الكبير الذي قام به الملك أبا جيفار في التعليم ونشر الإسلام والدفاع عن المسلمين في تلك الفترة، أوضح كامل أنه “في عصر الإمبراطوريات الإثيوبية كان هناك اضطهاد واضح للمسلمين، لكن الملك أبا جيفار قدم لهم الحماية في تلك الفترة، وأصبحت منطقته وجهة للمسلمين الفارين من اضطهاد الإمبراطور يوهانس، خاصة أهل منطقة “ولو” بشمال إثيوبيا” الذين نزحوا إلى منطقة أبا جيفار.
*الجزيره