محمد قواص : ماذا قال بن سلمان لضيفه اللبناني.. عن السنّة؟
في زيارة له أخيراً للمملكة العربية السعودية، استنتج مرجع سياسي سنّيّ أنّ لبنان ليس أولوية لدى الرياض، أو على الأقلّ ليس في الوقت الحالي. ولم يكن يحتاج هذا المرجع لزيارة السعودية لاكتشاف أنّ للمملكة أولويّات شفّافة معلنة تتركّز على تطوير البلد والدفع بتنميته وازدهاره وإعداده منذ الآن لاقتصاد غير نفطي. ومن أولويّة الأولويّات رفع مستوى مناعة المملكة وتحصين أمنها واستقرارها وتعظيم إمكانات الدفاع عنها. تكفي مراقبة حثيثة لكلّ تحوّلات الرياض في السياسة والأمن والاقتصاد لاستنتاج ذلك.
حين أثار المرجع في السعودية مسألة “مصالح السُّنّة” في لبنان سمع من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كلاماً قال إنّه فاجأه.
أخبر الأمير محمد الضيف اللبناني أنّ السعودية لا تفرّق بين الطوائف في لبنان، ولا تطمح إلى امتلاك علاقات مع طائفة على حساب أخرى، وأنّ الرياض يهمّها كلّ البلد واحداً موحّداً بجميع مكوّناته. وفق هذه القواعد استنتج المرجع من جديد تعذّر استدراج المملكة من بوّابات خلفيّة، وأنّ ما تطلبه المملكة هو نفسه ما يطالب به العرب والعالم أجمع من لبنان واللبنانيين.
على هذا، ووفق المداولات التي أجرتها عواصم الدنيا مع بيروت وساستها، والمفاوضات التي أجراها صندوق النقد الدولي مع حكوماتها، فإنّ على لبنان أن يُصلح حاله ويُحدِّث قوانينه وفق المعايير الأخلاقية قبل العالمية المعمول بها لوقف الهدر والتسيّب والفساد. وعلى البلد إعادة التوازن إلى حساباته، ووضع نفسه على سكّة سليمة قابلة للفهم والقراءة باللغة التي تستخدمها المؤسّسات والبلدان المانحة.
وعلى هذا أيضاً، ووفق ما استنتجه المرجع من المملكة ووليّ عهدها، فإنّ عهود “التشاطر” الذي اعتادته نخب لبنان الحاكمة قد ولّت، ولم يعُد في الرياض آذان تستمع إلى أصوات لبنانية تفتخر بشرعة الانقسام الطائفي وتعتبره سلعة قابلة للبيع وتجد لها سوقاً لدى عواصم الجوار. ولئن ردَّ موقف وليّ العهد الحجّة الطائفية، فإنّ الأمر يأتي أيضاً من داخل سياق علاقة المملكة التاريخية مع كلّ البلد، وهو ما أدركه المسيحيون قبل المسلمين في سابق الأيام كما في الزمن الحديث.
لبنان كلّه… لا طوائفه
لطالما كانت المقاربة السعودية في التعامل مع شؤون لبنان مقاربة خليجية عربية عامّة. ومن عَرف البلدان العربية جميعها، استنتج بسهولة إعجاب العرب بلبنان بما هو قيمة حضارية متعدّدة تضاف إلى حضارة المنطقة. ولئن درج أن اشتكى لبنانيون من طوائفهم وطائفيّتهم، فإنّ العرب رأوا في الأمر ظاهرة استثنائية في واقع جغرافيا الكوكب لم تجد مثيلاً لها في التاريخ. رأوا أيضاً أنّ ذلك التعايش، على صعوبته وقلاقله، بقيَ أقلّ دراماتيكية من تماسّ طائفي غير متعدّد بل ثنائي أدخل أوروبا في احتراب شديد الدموية خلال مئة عام.
تعامل الخارج مع اللبنانيين بصفتهم لبنانيين تختلف تجربة مسلميهم ومسيحيّيهم عن تجربة مسلمي العالم ومسيحيّيه. وإذا ما صدف أن عرف سائلٌ ديانة هذا اللبناني أو ذاك، فذلك أمر تفصيلي، وربّما أنتروبولوجي، من دون أن ينال الأمر من الطبيعة اللبنانية بصفتها ظاهرة أدركها البابا يوحنّا بولس الثاني. أبلغ الراحل اللبنانيين قبل العالم أنّ بلدهم هو “رسالة”. وإن كره اللبنانيون ذلك التفخيم لظاهرة بلدهم، وهو الذي يرزح تحت أهوال الحروب والانهيار الاقتصادي والصراع الهويّاتي وسجال مكانة الدولة في واقعهم، فإنّ العالم بدا أكثر حرصاً على حماية البلد لا الاستغناء عنه، وعواصمه ذاهبة إلى فرض علاجاتها المعتمدة لإنقاذه.
يحتاج لبنان إلى أن تتعامل دول العالم معه كتلةً واحدةً. تستطيع السعودية ذلك، وقد تستطيع إيران يوماً ذلك أيضاً. فلو استطاعت طهران أن تتجاوز في دواخلها المعايير الطائفية التي يقوم عليها نظامها، لأمكنها التعامل مع العراق والخليج ولبنان واليمن وبقيّة المنطقة تعاملاً كليّاً يتجاوز الانقسام الطائفي.
هذا الانقسام، وإن كانت له جذور عتيقة في لبنان وتلك البلدان، إلا أنّ تسعيره جرى بأجندة عقائدية سياسية مبرمجة قادت إلى تعويم ظواهر لم تعرفها المنطقة، على الأقلّ في المرحلة التي تلت مرحلة الاستقلالات.
لن يكون للبنان واللبنانيين أيّة حساسية مع الدول التي تعترف بهما قيمة كلّية لا طوائفية. لا بل إنّ لبنان، بعلله وعُقده، يحتاج إلى أن تفرض عليه دول الخارج معيار الكلّية وتهمل نهائياً سياسات مسايرته وفق جنونه الطائفي. والأرجح أنّ لبنان وفق هذا السيناريو سيُقبل على التعامل مع إيران وتركيا والعرب ودول العالم من دون أيّ محاذير بشأن توازناته الداخلية، ديمغرافية أو مذهبية أو سياسية، التي تنظّم خرائط اقتسام السلطة والثروة.
يستنتج المرجع السياسي السنّيّ اللبناني لغة رآها جديدة في السعودية، وهي ليست كذلك. غير أنّ “صحوة” المرجع واندهاشه قاما على مسلّمة بليدة خلال العقود الأخيرة رأت في دعم الخارج، الخليجي عامّة والسعودي خاصّة، قاعدة بنيوية في ازدهار لبنان. ومن المسلّمات التي اعتادها ولاة البلد أيضاً أنّ لبنان أولوية توازن ووجود للنظام الإقليمي، وأنّ رعايته المالية “واجبة” وتكاد تكون مقدّسة.
لكن فوجئ اللبنانيون بموقف سعودي يشترط الإصلاح في داخل بلدهم ورأب صدع علاقاتهم مع العرب، لأنّهم لم يفهموا هذه الأبجدية ولم يستوعبوا أن ترفض الرياض الاستثمار في عبثهم. حتى الأمين العام للحزب نفسه، على الرغم من كلّ الحملات التي شنّها ضدّ المملكة والحكم فيها، استغرب في خطاب له في كانون الثاني الماضي عدم تقديم الخليج الدعم للبنان، وكاد يقول: “من غير قيد أو شرط”. وراح يتساءل: لماذا لا تقوم السعودية بتقديم المدد القديم للبلد.
في 18 كانون الثاني 2023 أعلن وزير المالية السعودي محمد الجدعان في منتدى دافوس أنّ “المملكة تغيّرت”. قال إنّ بلاده كانت تقدّم منحاً ومساعدات مباشرة من دون شروط: “ونحن نغيّر ذلك. نعمل مع مؤسّسات متعدّدة الأطراف لنقول بالفعل إنّنا بحاجة إلى رؤية إصلاحات”. وفي الرياض من استنتج أنّ الاستثمار السابق في لبنان كان خاسراً، وأنّ على لبنان أن يوفّر “دراسات جدوى” سياسية تعيد إقناع المملكة باستثمارات رابحة في لبنان.
العالم يتغيّر والسعوديّة تتغيّر. ومشكلة لبنان وساسته والمرجع الذي زار الرياض أنّهم جامدون لا يريدون تصديق ديناميات الوجود ويمنّون النفس بعودة العقارب إلى زمن بات ماضياً مندثراً.