د.سالم الكتبي : دفعة مهمة للعلاقات السعودية ـ الفرنسية
تمر الديبلوماسية السعودية بمرحلة غير مسبوقة من الفاعلية والتأثير الجيوسياسي، حيث شهدت الفترة الأخيرة نشاطاً واضحاً على صعيد السياسة الخارجية السعودية، زار ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الجمهورية الفرنسية، التقى خلالها الرئيس ايمانويل ماكرون، وناقشا العديد من القضايا والموضوعات التي تندرج ضمن الاهتمامات المشتركة للبلدين.
وأفادت الرئاسة الفرنسية أن ماكرون وولي العهد السعودي أكدا مواصلة العمل على تخفيف التوترات بالمنطقة، كما أكد ماكرون التزام فرنسا أمن السعودية والاستعداد لتعزيز قدراتها الدفاعية.
ورغم أن فرنسا تعد أحد الشركاء الستراتيجيين التقليديين للمملكة العربية السعودية، اذ يتشارك البلدان في علاقات تعاون تاريخية وثيقة، فإن هذه الزيارة تحديداً تنطوي على أبعاد ودلالات ستراتيجية تتعلق بتوجهات السياسة الخارجية السعودية في المرحلة الحالية، اذ تعيد الرياض ترتيب أوراقها وإعادة ضبط أولويات اهتماماتها على صعيد السياسة الخارجية، وبما يصب في خانة تنويع الشراكات وبناء قاعدة واسعة من العلاقات الدولية التي تخدم مصالح السعودية وفي مقدمها تحقيق “رؤية 2030”.
وقد سبق لولي العهد السعودي زيارة فرنسا في عامي 2018، حيث وقع الجانبان إتفاقات وبروتوكولات تعاون بقيمة تناهز نحو 18 مليار دولار، كما زار أيضاً باريس في يوليو عام 2022. في المقابل، إستقبلت الرياض في ديسمبر 2021 الرئيس الفرنسي ماكرون، وقد تم خلال الزيارة توقيع عدد من الإتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الصناعة والثقافة والفضاء والقطاع التقني، إضافة إلى الإتفاق على مشروع ثقافي ضخم لتطوير محافظة العلا، وإقامة منشأة لإنتاج هياكل الطائرات (صناعات عسكرية)، وصيانة محركات الطائرات، وجميعها مؤشرات تعكس عمق علاقات البلدين وتواصلها واستمراريتها.
الزيارة الأخيرة لولي العهد السعودي إلى فرنسا تكتسب أهميتها في ضوء إعتبارات عدة أولها مشاركته على رأس وفد في قمة “من أجل ميثاق مالي عالمي جديد” المقرر عقدها في باريس في 22 و23 يونيو، حيث سيشارك الأمير محمد بن سلمان في حفل استقبال رسمي خاص بترشح الرياض لاستضافة “إكسبو 2030″، والمقرر عقده في باريس الاثنين المقبل. ولا شك أن هذه القمة تنطوي على دلالات حيوية بعضها يتعلق بدور السعودية في “هندسة” السياسات العالمية في ملفات وقضايا متعددة مثل المناخ والطاقة والاقتصاد، بحكم ما تتمتع به السعودية من مكانة وثقل ستراتيجي، إذ تناقش القمة تداعيات أزمات المناخ والطاقة والاقتصاد، خصوصًا في البلدان النامية، وطرح تصورات الدول المشاركة لحل هذه الأزمات وسبل التعامل معها في إطار فعاليات عدة يشارك فيها نحو 300 من ممثلي الدول والمنظمات الدولية، والقطاع الخاص والمجتمع المدني. النقطة الثانية، أن الزيارة تأتي على خلفية حراك ديبلوماسي سعودي مهم لحلحلة الأزمة الأوكرانية، التي تشهد حالة جمود سياسي، وحالة موازية من التصعيد في شقها العسكري، وتتميز الجهود السعودية في هذا الملف بالهدوء، والتحرك وفق خطوات محسوبة جيداً، وهنا تبدو باريس محطة مناسبة للنقاش في هذا الملف، بحكم إهتمام الرئيس الفرنسي عن تسوية للأزمة، وقد بذل ماكرون جهوداً كبيرة في هذا الملف، آخرها زيارته للصين في محاولة لدعم جهود الوساطة التي تطمح إليها بكين بين روسيا وأوكرانيا.
وتأتي زيارة ولي العهد السعودي باريس بعد نحو شهر من مشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في القمة العربية التي استضافتها السعودية، وهي قمة عبر فيها الأمير محمد بن سلمان عن استعداده للتوسط في الحرب بين موسكو وكييف، وكانت هذه الاستضافة إشارة مهمة لحرص المملكة على البقاء في موقع الحياد في ظل علاقاتها الوثيقة مع كل من موسكو وواشنطن.
النقطة الثالثة تتمثل في علاقات التعاون الاقتصادي والاستثماري بين السعودية وفرنسا، اذ يتوقع أن تثمر الزيارة عن توفير دفعة قوية لنشاط الشركات الفرنسية في السوق السعودية، التي تعيش مرحلة غير مسبوقة من الازدهار والانتعاش الاقتصادي والاستثماري، في قطاعات مختلفة. النقطة الرابعة تتجسد بوضوح في إهتمام البلدين بالبحث عن حل للوضع اللبناني المأزوم، اذ يعاني لبنان فراغاً رئاسياً منذ نحو ثمانية أشهر، وهو ملف معقد يمكن أن يؤدي التوافق السعودي ـ الفرنسي فيه دوراً مهماً للحل، لا سيما في ظل إستئناف العلاقات بين الرياض وطهران، بكل ما يعنيه ذلك من تأثير ايجابي محتمل على مناخ الأزمة اللبنانية.
مجمل هذه الملفات يصب في خانة تنامي دور السعودية، إقليمياً ودولياً، وتترجم توجهات السياسة الخارجية السعودية في الآونة الأخيرة رغبة قوية في تأدية دور حيوي يتماهى مع الثقل والمكانة التي تتمتع بها السعودية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن كونها مركز الثقل في العالمين العربي والإسلامي. ثمة نقطة مهمة وسط هذا الزخم الديبلوماسي السعودي، وهي أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يحرص على بقاء المملكة على مسافة واحدة من الأطراف كافة، ويعمل على ترسيخ هذه الستراتيجية في تحركاته كافة، حيث يمثل تنويع الفرص، وتوسيع هامش المناورة ركيزة مهمة من ركائز تحركات القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المرحلة المفصلية الراهنة التي يمر بها النظام العالمي.