رأي في الحدث

عبدالله المدني : خالد النفيسي.. بوصالح بائع الثلج ونصف قرن من العطاء

الفنان الكويتي الكبير خالد النفيسي غني عن التعريف، والمعروف لا يعرف كما قال العرب قديمًا. فقد شق طريقه بقوة وإرادة حديدية، متخطيًا كل الصعاب حتى غدًا علمًا من أعلام المسرح والتمثيل في الكويت والخليج العربي، بل عمودًا من أعمدته الرئيسية بفضل موهبته وأدائه المتقن ورغبته الجامحة في تطوير عمله واختياره الواعي للشخصيات التي يجسدها. وهكذا قدّم على مدى نصف قرن أعمالا راقية ومؤثرة جعلته خالدًا مخلدًا في القلوب والنفوس. 

وليس أدلُّ على ذلك من أن عمله التلفزيون الأثير مسلسل «درب الزلق»، الذي شكل نقطة تحول في حياته بظهوره في دور «بوصالح» بائع الثلج المتصابي العاشق لجارته الأرملة أم سعد، لا يزال يحظى بالمتابعة إلى اليوم رغم مرور أكثر من نصف قرن على إنتاجه، وكذا الحال مع بقية أعماله وعروضه الكثيرة في الإذاعة والتلفزيون والمسرح، والتي حرص فيها على تكنيك مختلف في الأداء يخصه وحده ولا يشبه أداء أي من زملائه، ناهيك عن توخّيه مزج الجانب الإجتماعي بالبعد السياسي في أعماله المسرحية والدرامية. ويكفينا دليلاً، في هذا السياق، أن نشير كمثال إلى مسرحيات ثلاث تحديدًا هي: «حامي الديار»، و«حرم سعادة الوزير»، و«هذا سيفوه وهذي خلاقينه».

يعتقد النفيسي أن رسم إبتسامة على شفاه طفل صغير في حجر أمه، أو الترفيه عن امرأة مسنّة واضحاكها من خلال عمل فني كوميدي هادف، هو أكبر وسام على صدره، لذا رفض عروضًا كثيرة قدّمتها له الدولة للسفر إلى الخارج في بعثات دراسية لصقل مواهبه أكاديميًا، مفضلاً عليها الإستمرار والبقاء مع جمهوره في الكويت لاسعادها.

ولد خالد بن صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن النفيسي في السادس والعشرين من يناير 1937 في الكويت إبنا مدللا لوالده داخل أسرة يرجع نسبها إلى فخذ العفسة من قبيلة مطير المعروفة. تُوفي والده وهو لم يتعد سن الخامسة عشرة، فاضطر لترك دراسته الثانوية من أجل أن يدخل سوق العمل كي يفي بالمتطلبات المعيشية لعائلته واخوته الصغار، حيث تولى رعائتهم وتربيتهم بمساعدة والدته التي عاشت معهم إلى أن توفيت في الثمانينات، والتي شكل رحيلها صدمة موجعة له، جعلته يستوحش المنزل، وهو ما دفعه للتغلب على أحزانه بالإكثار من السفر، لكن دون التخلي عن مسؤولياته تجاه اخوته. ولعل هذين العاملين كانا سببا في رفضه الطويل لفكرة الزواج، إلى أن رضخ لإلحاح والدته فاقترن في عقد الستينات بإحدى الفتيات الكويتيات التي استمر معها أربع سنوات انتهت بالطلاق دون انجاب أطفال. بعد هذه التجربة رفض النفيسي تكرارها متذرعا بأسفاره ومشاغله، قائلاً إنه لا يريد أن يظلم أي إمرأة كونه لن يستطيع أن يمنحها حقها الكافي من الاستقرار.

طبقًا لما ورد في موقع تاريخ الكويت الإلكتروني، فإن أسرة النفيسي قدّمت إلى الكويت في نهايات القرن التاسع عشر (سنة 1892 تقريبًا) من عنيزة بنجد بمعية آل سعود عند نزوحهم للكويت، فسكنت منطقة «القبلة» من العاصمة، وبرز منهم رجال أفاضل لعل أشهرهم «عبدالله بن عبدالعزيز النفيسي» الذي تولى تمثيل الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه سياسيًا وتجاريا في الكويت من عام 1901 إلى عام 1942، وقد خلفه في هذا المنصب إبنه الأكبر عبدالعزيز عبدالله النفيسي من عام 1942 إلى تاريخ وفاته سنة 1955، حيث خلفه ابنه فهد بن عبدالعزيز النفيسي من 1955 وحتى تاريخ استقلال الكويت وتبادل التمثيل الدبلوماسي بين المملكة العربية السعودية ودولة الكويت على مستوى السفراء.

درس الفنان خالد النفيسي في المدرسة الأحمدية (نسبة إلى الشيخ أحمد الجابرالصباح) والتي شهدت انضمامه مع زميله رائد المسرح (لاحقًا) محمد أحمد النشمي (1929-1984) إلى فرقة الكشافة المدرسية في مطلع الخمسينات الميلادية. ومن خلال فريق الكشافة وأنشطته المسرحية برزت مواهبه التمثيلية وبراعته في الأداء، وقد تجلى ذلك عمليا حينما شارك في مسرحية حملت عنوان «ضاع الأمل» من تأليف وإخراج زميله محمد النشمي، وتم تقديمها على مسرح «مدرسة الصديق» تحت إشراف المسرحي المصري الكبير زكي طليمات سنة 1957 بمشاركة كل من صالح العجيري وعقاب الخطيب وسعد القطامي. يقول النفيسي أن ناظر المدرسة الأحمدية الأستاذ صالح عبدالملك الصالح كان له دور في توجهه نحو تحقيق ذاته من خلال المسرح. فقد شجعه وصفق له وربت على كتفه بعد أن شاهده يمثل على المسرح المدرسي. 

أما المسرحية الأولى التي عرّفت الجمهور العريض به وبطاقاته التمثيلية فقد كانت مسرحية «صقر قريش» التي عرضت في 18 مارس 1962 من إخراج زكي طليمات وتأليف محمود تيمور، وشاركه فيها كل من عبدالحسين عبدالرضا ومريم الغضبان ومريم الصالح، علمًا بأن هذه المسرحية تُعد أول عمل فني تظهر فيه عناصر نسائية كويتية، بل تعتبر أول عمل مسرحي جماهيري في تاريخ الكويت الفني.

قلنا أن النفيسي ترك دراسته الثانوية واتجه إلى سوق العمل، فكان أول عمل التحق به هو وظيفة كتابية بميناء الشويخ سنة 1954، وعقب بضعة أعوام تمّ تعيينه موظفًا بصندوق الجمارك، لكنه لم يستمر في هذه الوظيفة طويلا لينتقل منها إلى وظيفة أخرى في أملاك الدولة. وفي عام 1962 التحق بوزارة الشؤون الإجتماعية والعمل. وخلال هذه السنوات من عمره لم ينس شغفه بالفن والتمثيل، إذ مارسه كهواية سنة 1965 من خلال فرقة المسرح الشعبي بعد أن مارسه قبل ذلك على خشبة المسرح المدرسي كما أسلفنا. كان هذا قبل أن يضم جهوده إلى جهود آخرين في تأسيس «فرقة المسرح العربي» التي دشن تأسيسها بداية مرحلة جديدة متميزة في تاريخ الحركة المسرحية في الكويت كونها خطت أسلوبًا جديدًا مختلفًا عمّا قبله سواء لجهة نوعية أعمالها أو لجهة طريقة الإدارة، او لجهة اختيار أعضائها.

ولعل ما أسهم في نبوغ النفيسي فنيًا هو عمله مع رواد الحركة المسرحية الكويتية الأوائل وقربه منهم، ناهيك عن تتلمذه لاحقًا على يد مؤسس الحركة المسرحية في الكويت المبدع زكي طليمات، الذي قدّم معه عددًا من الأعمال المحفورة في ذاكرة الناس ومنها: مسرحيات «صقر قريش» (1962) و«ابن جلا» (1962) و«أبو دلامة» (1963)، قبل أنْ يقدم مع فرقة المسرح العربي مسرحيات: «عشت وشفت» (1964) و«الكويت سنة 2000» (1966) و«اغنم زمانك» (1965) و«حط حيلهم بينهم» (1968) ومن «سبق لبق» (1969)، وقبل أن يشارك في مسرحيات من انتاج القطاع الخاص مثل: «بيت بوصالح» (1978) و«حرم سعادة الوزير» (1979) و«ممثل الشعب» (1980) و«دقت الساعة» (1984) و«حامي الديار» (1986) و«هذا سيفوه» (1988) و«سنطرون بنطلون» (1990). ومن الجدير بالإشارة هنا إلى أن النفيسي شكل في الثمانينات مع سعد الفرج والكاتب/‏ المخرج عبدالأمير التركي مثلثًا فنيًا رائعًا استطاع صناعة مسرحيات كوميدية اجتماعية بمضامين واسقاطات سياسية، وذلك ترجمة لإيمانهم القوي بدور المسرح في التوعية والإصلاح والتوجيه.

وفي التلفزيون قدم النفيسي أيضًا أعمالاً خالدة لا تقل روعة عما قدّمه على خشبة المسرح مثل مسلسلات: «محكمة الفريج» (1967)،: «درب الزلق» (1977)، و«أبلة منيرة» (1982)، وخالتي قماشة (1983)، و«السرايات» (2000)، و«ديوان السبيل» (2001)، و«الشريب بزة» (2002)، و«الحيالة» (2003)، و«خالتي وعمتي» (2003)، و«عديل الروح» (2005)، و«فريج صويلح» (2005).

 أما أعماله السينمائية فقد اقتصرت على مشاركته في فيلم «الصمت» (1979) من إخراج هاشم الشخص مع أحمد الصالح ومريم الغضبان وحياة الفهد وإبراهيم الصلال وخالد العبيد وعبدالعزيز النمش، وفيلم «العاصفة». (1965) من إخراج محمد ناصر السنعوسي مع عبدالحسين عبدالرضا وجوهر سالم.

إلى ذلك، شارك النفيسي بالتمثيل في مسرحية «وزير الناس» القطرية مع الفنان القطري عبدالعزيز جاسم، والتي عرضت على خشبة مسرح قطر الوطني سنة 2002، مجسّدًا دور «بوناصر» رب العائلة الفقير الذي يصبح وزيرًا فيعالج قضايا الناس المعيشية، قبل أن يعود إلى فقره السابق.

ومن أعماله الأخرى التي شهدت رواجًا وأحبها الجمهور أوبريت «المطرب القديم» مع الفنانة سعاد عبدالله من تأليف الشاعر الغنائي بدر بورسلي وتلحين غنام الديكان، كونه خالف في مضمونه موضوع الحب والغزل المعتاد بين الرجل والمرأة، باعتماد قصة مطرب شعبي في حي قديم. 

تميز النفيسي بكاركتر خاص، فعقاله المائل والسبحة التي لا تفارق يده ونبرة صوته المميزة، علاوة على سنه المخلوع في الفك الأمامي، صنعت منه نمطًا فنيًا فريدًا لا يشاركه فيه أحد. كما أنه اختص بثيمة أداء تحرك بها في معظم الشخصيات التي جسّدها، وتمثلت في «العصبية»، بل إنه الوحيد الذي أضحك الناس حينما كان يتعصب ويتوتر فيعلو صوته صارخًا: «يا جليل الحيا» (يا قليل الحياء) مثلاً. 

سألته صحيفة القبس الكويتية (26/‏1/‏1974) في حوار منشور عن سر سنه المخلوع الذي يضفى عليه شكلا مميزا كلما ضحك، فأجاب بأنه في صغره كان يتردد على «سيف الخالد» للسباحة، وذات يوم قذفته الأمواج العالية بقوة على صخر سور البحر، فانكسر سنه. وفي الحوار نفسه أخبرنا النفيسي أنه يهوى رياضتي الإسكواش والسباحة (حصل على بطولة الكويت في الاسكواش لعام 1956)، وأنه يتمنى أن يجسد دور مجنون في أحد الأعمال كي يخرج كامل طاقاته التمثيلية أمام الجمهور، معرفًا الممثل الحقيقي بأنه ذلك الذي يقف أمام ألف متفرج، لكنه يتصرف كأنه مع أصحابه داخل غرفة بلا درايش (نوافذ)، أي الممثل الذي لا يمثل على الناس.

تحدثت شقيقته حنان النفيسي (أم طلال) إلى صحيفة القبس الكويتية (6/‏4/‏2006) عن معاناته وظروف مرضه ووفاته فقالت إنه رحمه الله اكتشف في رمضان 2005 وجود حبة تحت لسانه فذهب إلى الطبيب الذي حوله إلى «مستشفى حسين مكي جمعة»، حيث قيل له بعد الفحص والتشخيص أن ذلك ورم سرطاني قد تمدد إلى الغدد الليمفاوية، وأن عليه استئصاله، فسافر إلى الخارج لهذا الغرض. وأضافت أم طلال ان الراحل أهمل المراجعات الدورية بعد استئصال الورم الخبيث، رغم «إلحاحنا عليه بضرورة مراجعة الأطباء من وقت إلى آخر».

لم يرد النفيسي أن يزعج أهله ويثقل كاهلهم بأعباء مرضه، حرصًا منه على ألا يراهم مهمومين، لذا اتخذ قراره بالابتعاد عنهم كيلا يحملهم مسؤوليات العناية به، فسافر إلى المغرب حاملاً معه أحزانه وآلامه. كان القرار صعبًا عليه، خصوصًا وأنه كان قريبا من أهله، 

في الخامس والعشرين من مارس عام 2006 شعر النفيسي فجأة وهو في مسكنه بالرباط، بضيق في صدره وإصفر لونه، فتم نقله على عجل إلى أحد المستشفيات المغربية ودخل في غيبوبة. بلغ الخبر أسماع أمير دولة الكويت آنذاك سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، فأمر بنقله بواسطة طائرة خاصة إلى لندن للعلاج على نفقة الدولة. غير أن ظروفه الصحية المتدهورة وصعوبة تنفسه جراء انتشار السرطان في صدره ورئتيه حالت دون نقله، ليودع الدنيا، التي أحبها وزرع فيها الإبتسامة والفرح والحبور، إلى دار الآخرة في السابع والعشرين من مارس 2006 (وهو اليوم العالمي للمسرح، فأي مصادفة هذه؟)، تاركًا خلفه سيرة مضيئة حفلت بالكرم والوفاء وطيبة القلب والبر بالوالدين ورعاية الأهل ومد يد العون لكل محتاج وتبني الأطفال اليتامى، ناهيك عن حرص شديد على علاقات واواصر حميمة مع كل زملائه من أهل الفن دون استثناء، وخصوصًا سعاد عبدالله وحياة الفهد وعبدالحسين عبدالرضا. وبعد وفاته قامت السفارة الكويتية في الرباط بعمل اللازم لنقل جثمانه إلى الكويت، حيث ووري الثرى بمقبرة الصليبيخات بحضور حشد من الفنانين والمسؤولين يتقدمهم أمير الكويت الحالي الشيخ نواف الأحمد الصباح.

ومع انتشار خبر رحيله، تبارى محبوه وزملاؤه في رثائه والإشادة بمناقبه وسرد ذكرياتهم معه، ومنهم عبدالحسين عبدالرضا الذي قال: «لا استطيع أن ارثي خالد، فالخالدون لا تكفيهم كلمات الرثاء… وخالد النفيسي ليس ممثلاً فقط بل إنسان وصديق وأخ تربيت معه منذ الطفولة في مدرسة الأحمدية أثناء الدراسة وتزامنًا معًا في المسرح العربي في بداياتنا، وكان شفافًا مرهف الحس لا يعرف الحسد طريقا إلى قلبه». وفي حوار أجرته جريدة الجريدة الكويتية (21/‏6/‏2015) مع عبدالحسين عبدالرضا تحدث مجددًا عن النفيسي فقال: «يعتقد الكثيرون بأنه عصبي، ولكنه في حقيقة الأمر خفيف الدم، وكثير المزاح والمشاكسات في كواليس المسرح، أو وقت التصوير، كما يمتاز بكثرة مقالبه مع العاملين معه في أي عمل فني، دون مراعاة للتوقيت، أو ظروف العمل»، مضيفًا أنه لم يكن بالإمكان السيطرة عليه. وهذا ما أكده آخرون بقولهم أنه كان شعلة من النشاط، وكان شقيًا جدًا لدرجة أن زكي طليمات بقدر ما أزعجته شقاوته، فقد استلطفه وكان محل اهتمامه.

أما حياة الفهد فقد قالت عنه: «كان مميزًا في كل شيء، بحبه للجميع، وخفة روحه، وكرمه. لم نسمع أنه اختلف مع أحد، أو تكلم عن أي إنسان في غيابه. كان بعيدًا عن النميمة والحسد، مرحًا، مجلسه لا يمل، لا يحب أن يرى أحدًا متضايقًا أو حزينًا. حتى في مرضه كان ساخرًا يسخر من المرض، فقال ذات مرة (ما أخلي المرض يهزمني، أنا بوصالح)، لكن المرض هزمه، وهذه إرادة الله».

وكان الأديب والناقد السعودي أحمد الواصل قد كتب بصحيفة الرياض (1/‏6/‏2006) قبل وفاته قائلاً: «إن الطينة الإبداعية لخالد النفيسي تجعله في مصاف الممثلين العظام الذين لا يمرون عبثا على خشبة المسرح»، مضيفًا أنه «يبقى من أنفس البشر، وآخر السيوف النجدية»، ثم وصفه بأنه من طينة أنطون كرباج في لبنان ومحمود المليجي في مصر ومارلون براندو في أمريكا.

ونختتم بالإشارة إلى أن النفيسي حصل على العديد من الجوائز منها: الجائزة الذهبية عن دوره في مسرحية «حرم سعادة الوزير»، وشهادة تقدير لتميزه الفني في الاحتفال بيوم المسرح العربي سنة 1980، وجائزة فنان المسرح الأول سنة 1977. إلى ذلك تمّ تكريمه في عام 2001 من قبل الشيخ سالم صباح السالم الصباح رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى والمفقودين، ثم تمّ تكريمه لدوره في فيلم العاصفة قبل وفاته بعام في احتفال أقامته وزارة الإعلام الكويتية.

*الايام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى