أحمد الجارالله: ما حدث في غزة يجب أن يخضع لمحاكمة عربية
لا بد من المكاشفة في قضية مصيرية كتلك التي يعيشها قطاع غزة وأهله، بل كل الشعب الفلسطيني، الذي منذ 75 سنة وهو ضحية للنفاق العربي، والمجاملات، والانتصارات الوهمية التي تستثمرها المنظمات لتعزيز وجودها السياسي، والزعماء لمزيد من اكتناز الأموال، والعيش في النعيم، بينما الملايين يرزحون تحت خط الفقر والمخيمات، وليس لديهم الحد الأدنى من الحقوق الطبيعية.
“الهدنة الإنسانية” التي أُعلنت ليست أكثر من محاولة لكشف الوجه الحقيقي لما أقدمت عليه “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي، والقتل والدمار الكبير والمخيف، إذ بعد 50 يوما من القتل الدمار، رضخت الحركة للشروط الاسرائيلية، وهذا يعد هزيمة كبيرة لها، لهذا نتمنى ألا يخرج علينا إسماعيل هنية أو خالد مشعل، وكل جوقتهما لإعلان أن ما حدث هو انتصار إلهي، أو يرددون، بعد حين، مقولة حسن نصرالله عقب حرب 2006، ودمار لبنان وسقوط مئات الضحايا من اللبنانيين “لو كنت أعلم أن خطف الجنديين الاسرائيليين سيجر علينا كل هذا القتل والدمار، لما أقدمنا على ذلك”.
اليوم، أي كلام يصدر عن قادة “حماس”، في ما يتعلق بتحقيق مكاسب هو كلام “خنفشاري”، لا محل له من الإعراب في السياسة، خصوصا بعد ما خرج هنية في أناقته المعهودة، ليقول بما معناه إننا لا نزال نمسك بخيوط اللعبة، وإن الهدنة انتصار للشعب الفلسطيني، لهذا نقولها له صراحة: أنت المهزوم، والعرب أيضا مهزومون، لأنهم لم يستطيعوا إدخال شاحنة مساعدة واحدة، إلا بعد موافقة تل أبيب وتفتيشها.
كنا نتمنى أن تسود العقلانية العالم العربي، وتكون هناك رؤية، فلا يسمحون لكل الانتهازيين بأن يستثمروا في الدم الفلسطيني، وحين أزفت ساعة الحقيقة انزووا كلهم في مخابئهم، فإيران، التي صورت نفسها طوال أربعة عقود حاملة لواء تحرير فلسطين، والمسجد الأقصى، رغم أنها لم تطلق طوال تلك السنوات رصاصة واحدة، في السابع من أكتوبر الماضي انصاعت للتهديدات الأميركية والاسرائيلية.
كذلك، “حزب الله” الذي تصرف هذه المرة بعقلانية، لأن قادته رأوا أن الموجة أكبر من قدراتهم، وبدلا من التباهي بـ”وحدة الساحات” التي ورطت الفلسطينيين في هذا الهجوم، عملوا على استغلال المعركة لتعزيز قوتهم السياسية في لبنان.
أما جماعة “الحوثي” التي حاولت توسيع إرهابها عبر هجمات صورية، فإنها اليوم وقعت في فخ نصبته لنفسها، فيما الميليشيات العراقية ارتكبت المزيد من المغامرات التي تستثمرها حاليا طهران في اتصالاتها مع واشنطن لتحصيل المزيد من مليارات الدولارات، أما سورية فتصرفت بعقلانية، لأنها لا قبل لها على مواجهة الولايات المتحدة واسرائيل.
هل هذه المغامرة التي ارتكبتها “كتائب القسام”، من دون مشورة أحد، تستحق أن يموت بسببها 15 ألفاً من الأبرياء، بينهم سبعة آلاف طفل، وخمسة آلاف امرأة، وأن يدمر نحو 60 في المئة من قطاع غزة، وينزح نحو مليون ونصف المليون من سكان شمال القطاع إلى جنوبه؟
في كل هذا نسأل: ما الفائدة من الجريمة؟ ربما هناك من يقول إن القضية الفلسطينية عادت إلى الواجهة دوليا، وإن الرأي العام العالمي أصبح أكثر تأييدا لها، لكن هل هذا يكفي، أليس الناخبون الاميركيون، والبريطانيون، والفرنسيون، والالمان، وغيرهم في العالم شاغلهم الوحيد قضاياهم الداخلية، وتحسين معيشتهم، ولا يهتمون لما يجري في الخارج؟
طوال 50 يوما اختفى خالد مشعل وقادة “حماس”، بل اختفى كل قادة ما يسمى “محور الممانعة”، لأنهم كانوا يتحسسون رقابهم، ويحاولون الاستثمار في الدم الفلسطيني المراق في شوارع غزة، فيما في المقابل، ارتفعت شعبية اليمين المتطرف الاسرائيلي، وزادت الهجمات المسلحة على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وكذلك صار الاسرائيليون أكثر مطالبة بالقضاء ليس على “حماس” فقط، بل على القوى المؤيدة لها، وهذا يعني أن ما بعد الهدنة ليس كما قبلها، وأن المأساة ستزداد فداحة أكثر، فهل أدرك هنية ومشعل والسنوار والضيف، وكل من لف لفهم، ذلك؟
لو كانت هناك رؤية واقعية عربية، فإن الذين ارتكبوا تلك المغامرة لا بد أن يحاكموا بمحكمة عربية مؤلفة من كل الدول، إذ لا يمكن لأي كان أن يأخذ الملايين إلى مذبحة لتنفيذ أجندة مشبوهة.
لمرة واحدة، يجب أن يكون العرب على قلب رجل واحد، ويعرفوا كيف تورد الإبل، لا أن يفرقهم ذباب إلكتروني اسرائيلي، أو حسابات صغيرة، فما حدث في غزة أكبر بكثير من كل الحسابات الضيقة، فهل يدرك العرب ذلك؟