عبدالله بشارة: الشيخ محمد الصباح.. في موكب الصفوة
نبارك للشيخ الدكتور محمد صباح السالم ثقة سمو الأمير به كرئيس للوزراء، في هذه الفترة الحساسة من تاريخ الكويت، ويشدني هذا الاختيار مستذكراً حياة المرحوم والده الشيخ صباح السالم، الذي أشرفت شخصياً على الكتاب، الذي صدر منذ سنوات، يدوّن سيرته الطيبة، ووقفت من خلال قراءة الوثائق حول حياته وسلوكه، وأشعر من معرفتي بالشيخ محمد الصباح، أنه ورث من والده أجمل الصفات، التواضع، ونظافة الضمير، وحب الخير، والإنصاف في الرأي، وندعو له بالتوفيق، داعين له في الحق، ناقدين له عند غيابه، واثقين بأنه قادر على التواصل والتحاور مع مختلف الاجتهادات بسعة صدر وحكمة وحياد، محافظاً على وقار المكان، ملتزماً بقواعد العمل، ومقدراً للمسؤولية، ومتفهماً لشهية الكويت الحادة للانطلاق.
وأضيف متطرقاً إلى تجربة الشيخ صباح الخالد كرئيس للوزراء، التي استمرت سنوات، قاد فيها فريق الوزراء بتواضع المميزين، منفتحاً مع الجميع، صادقاً في حواراته، ومؤدباً في تعليقاته، لم يرتفع صوته في مناقشات، متقبلاً الملاحظات والانتقادات بسعة صدر الواثق من أدائه والمحافظ على نظافة ضميره، والمؤمن بأنه يؤدي واجباً وطنياً لخدمة الكويت، التي تستحق كل التضحيات مهما تعقدت المسؤوليات.
وممكن أن أشير إلى التزام الشيخ صباح الخالد خلال رئاسته، وفي حواراته داخل البرلمان مع النواب، بالتسلح بقيم الأدب الجم، الذي حافظ عليه خلال هذه السنوات، فلم ينفعل ولم يتخاصم مع أي طرف، وسار في هذا الممر طوال السنوات متحصناً بغطاء الأدب الجم، ومؤمناً بأن المناعة التي يوفرها إيمانه برقي الأخلاق وصون المقام وحماية الكبرياء من الضرورات في العمل السياسي، الذي تتواجد فيه مختلف الطبقات من الانفعالات.
وملاحظتي للشيخ محمد الصباح أن يتفحص تجربة الشيخ صباح الخالد في حواراته مع النواب وإصرارهم على التمسك بمقترحاتهم حول مختلف القضايا، واكتفى بالتعبير عن مواقف الحكومة بعبارات فيها نغمة التآخي، وتخلو من حدة التعبير ومن غلاظة الاعتراض، بينما كانت بعض المواقف تستدعي عبارات قوية واضحة النصوص في اعتراضات الحكومة على ما يريده النواب من اتفاق حول موضوعات من صلاحيات الحكومة وحدها.
ومرة أخرى، أشير إلى واقع اليوم، مسجلاً أن الذرابة الكويتية، لا تحسم قضايا حولها تباعد في الاجتهادات والمواقف، فيظل مكان الذرابة لا يتوافق مع التباينات السياسية، ومكانها خارج المشاحنات السياسية.
في نظام الكويت السياسي يظل سمو الأمير أباً للجميع، فالقرار السياسي من حقه وحده، بينما يتحمل رئيس الوزراء مسؤوليات الإشراف على عمل الوزراء، مدافعاً عن قراراتهم ومتصدياً لاعتراض النواب على ما تعرضه الحكومة من مختلف برامج العمل السياسي والاقتصادي وفي كل المسارات.
وأعتقد أن من أبرز حقائق الكويت، التي على الشيخ محمد أن يتصدى لها كرئيس للوزراء، واقع الجهاز الوظيفي الذي عليه تنفيذ ما تريده الحكومة في خطتها التنموية الجامعة، ولا أظن أن حقائق الجهاز الوظيفي تسعد من يقترب من أشواكه وتعقيداته، لكن لا مفر من مواجهته، فهذه معضلة قد تشل العمل وتؤخر الأداء وقد تفشل الخطة كلها.
وليس من السهل غربلة الجهاز بشكل مؤثر في بلد الارتياح والارتخاء، فمهما سعى رئيس الوزراء لتطبيق القانون، فهناك واقع سياسي واجتماعي يعطل همته إذا اتبع أسلوب السكينة، وسيواجه الشيخ محمد هذه الحالة المخربة للانضباط والمعطلة للانطلاق.
تحتاج الكويت في اجتهاداتها نحو التنمية الجامعة إلى مقاربة مختلفة عن أسلوب العمل، الذي سار عليه رؤساء الوزراء السابقون، وأول شروط نهج النجاح الوصول إلى توافق مع البرلمان على الارتفاع بأداء الجهاز الوظيفي وتطوير آلياته، وتطعيمه بكفاءات مناسبة للتطوير، وشحن همته نحو أهداف الخطة، مع فرض الانضباط في العمل والالتزام بتنفيذ المهمة دون تأخير، والحقيقة أن الدستور يعتمد لتحقيق فاعليته على التعاون الحكومي-البرلماني، فكل بنود الدستور تكشف حقائق الكويت في حتمية التوافق البرلماني-الحكومي، لكي تسير الكويت نحو تحقيق أهدافها، ومن دون ذلك لا يمكن أن تعبر الكويت إلى فصل التقدم والتطور.
ولا أشك بأن الوصول إلى هذا الهدف الحتمي يتطلب أن تكون التنمية والرقي في الكويت من أولويات العمل الحكومي ـ النيابي المشترك، له الأولوية في ملف النواب الذين انشغلوا عنه بحثاً عن امتيازات قد تقدّم لمؤيديهم من الموظفين وللمفاتيح الانتخابية من المناصرين، الأمر الذي تسبب في ضياع الانضباط، وتصاعد الإهمال وانحسار الفاعلية.
ومع تصاعد الأمل في رسم خطة تنموية تتفق عليها السلطتان (الحكومة والبرلمان)، يتجدد البحث عن كفاءات كويتية تتحمّل أعباء التنفيذ، ويستطيع الشيخ محمد الاستعانة بالكفاءات بدعم مشترك برلماني – حكومي، وأذكّر الشيخ محمد في حقيقة الكويت بأن تطورها ومسارها نحو الأهداف العالية التي تطمح للوصول إليها مضمونان في الشراكة الحكومية -البرلمانية، ودون ذلك لن تتمكن الكويت من السير نحو التجديد والابتكار.
هذه المهمة التي سيحملها الشيخ محمد، رئيس الوزراء، لن تتوافر طالما يوجد اختلاف في الاجتهادات وفي سلم الأولويات وفي القناعات، ويوصلنا هذا الواقع إلى بقاء الكويت في وضع متأزم دائماً وبلا تطور، مع تواصل المناكفات بين الحكومة والنواب، الذين يسعون لتأمين استمرار العضوية والبقاء في البرلمان، مع السعي لبناء آلية تساعدهم لضمان النجاح.
هذا الوضع المتأزم هو نصيب الكويت من حياتها منذ عام 1963، ويعود السبب إلى سوء فهم حقائق دستور الكويت، الذي لا تسمح هيكلته، ولا لوائحه الداخلية، ولا مسببات انطلاقه، بوجود معارضة، كما نتابعها في الأنظمة الغربية الليبرالية، لأن الأهداف التي ولد من أجلها الدستور هي التشاركية في القرار، فجميع مسارات الدولة وقوانينها تنبع من توافق السلطتين، ومن مرجعية واحدة يجسدها سمو الأمير بكل ما له من صلاحيات، بما فيها حل المجلس والاستغناء عن الحكومة أو استبدالها.
وقد أظهرت لنا تجارب الماضي استحالة وجود خطة للعمل السياسي أو الاقتصادي، أو في أي مجال، دون توافق الطرفين، فلا مكان للتصويت سوى في مسارات إجرائية غير مؤثرة. وهذا الواقع الذي تعيش فيه الكويت يستدعي التعاون والتنسيق بين رئيس مجلس الأمة ورئيس الوزراء، فالانسجام بينهما المدخل المهم للوصول إلى تفاهم مشترك يأتي منه مناخ الألفة ليس بين الرئيسين فقط، وإنما يتعدى ليسيطر على أجواء العمل.
فمن أهم مسؤوليات رئيس المجلس ليست إدارة الجلسات، وإنما تحقيق التفاهمات وإبعاد المعطلات والإسهام في تلطيف الأجواء، ووقف أي تحرك يؤذي أجواء التعاون، بما في ذلك استسهال اللجوء إلى الاستجوابات لمسببات لا علاقة لها بقضايا الوطن، وإنما لمسببات، منها الإخفاق في تأمين ترقيات أو تنقلات بشيء من الامتيازات للمقربين من الموظفين.
ويمكن الإشارة إلى أن إجراءات الاستجواب المتبعة وفق اللائحة الداخلية مسرحية في ترتيباتها، ومربكة في مسارها، ومضرة في حصيلتها، وخسرت الكويت عدداً كبيراً من الوزراء الذين يرون في هذا الباب تشنيعاً ثقيلاً ودخيلاً على السلاسة، التي تتميز بها العلاقات بين السلطتين، ومؤذية لشبكة التداخل بين أبناء الكويت.
وفوق ذلك، إن مادة الاستجواب تتناقض مع مفاهيم الشراكة، التي هي العمود الأكبر في الأهداف التي يوفرها الدستور.
هذا موجز لما قد يواجهه الشيخ محمد الصباح كرئيس للوزراء، وهي أعباء من السهل تجاوزها إذا التزم الطرفان بمفهوم الشراكة، إضافة إلى تداخل في تعاون وثيق لتنفيذ برنامج خطة التنمية المناسبة لهذا العصر.
نكرر المباركة للشيخ محمد، الذي نعرف عزمه في مواجهة الصعوبات، وندرك أنه مسلح بتجارب متنوعة تمتد من التدريس والشرح إلى أعباء دبلوماسية تحمّلها خلال حياته في واشنطن وفي وزارة الخارجية، أثبت خلالها قدرته على التفاعل مع التنوع وتعايشه مع التحديات، ومرونته في الانسجام مع التبدلات، التي عاشتها الكويت منذ الغزو، وانخراطه في استراتيجية الردع، التي انطلقت الكويت في أجوائها منذ تلك الواقعة، وندعو له بالتوفيق، متابعين خطواته.