رأي في الحدث

عثمان الماجد :«حزب الله».. ماذا بعد؟

الحديث عن لبنان قبل تأسيس «حزب الله» شيء وبعد تأسيسه شيء آخر مختلف، فقبل الحزب، وإذا أردنا الدقة قبل حسن نصرالله، كانت هناك دولة لبنانية صاحبة قرار مستقل وأحزاب بعقائد وإيديولوجيات ومذاهب مختلفة ولكن يجمعها الانتماء والولاء للدولة اللبنانية حتى وإن كان أغلبها يقوم على أسس طائفية شأنها في ذلك شأن الدستور اللبناني نفسه، وبعد تأسيسه صار الحزب يخطو تدريجيا باسم المظلومية في اتجاه أن يصبح دويلة تأخذ مساراتها إلى داخل الدولة اللبنانية وتراكم قدرة على وقف أعمال هذه الدولة وشلها، ولو قُدر للبنان أن ينشأ فيها «حزب الله» في أربعينيات القرن العشرين لما كانت لبنان إحدى الدول العربية الرائدة في الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي والإعلامي وفي الديمقراطية، ولما كان لها دور أو إسهام فعال ضمن دول عربية سبع في تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945؛ ولما كانت لتبلغ حدا من التطور الثقافي والسياسي والأدبي حتى بدء الحرب الأهلية بين الأعوام 1975 و1990. 
أما اليوم فيعود ضعف التأثير الإيجابي لدولة لبنان، بل قل إن تأثيرها صار سلبيا في مجمل الاتجاهات التي فرضها الحزب على الدولة اللبنانية بربطها المباشر بالسياسات الإيرانية وقراراتها، إلى التحول السياسي والاجتماعي العميق الذي بدأ بعد الحرب الأهلية، وتأسيس «حزب الله» وكيلا معلنا لإيران في عام 1982 يأتمر بما به تأمره لتتخلق معه، رويدا رويدا، مشكلة لبنان المستعصية على الحل، خاصة بعد تمكنه من الهيمنة على أجهزة الدولة ونجاحه في حرف مسار الدولة من أن تكون دولة قومية فاعلة في محيطها العربي إلى أن تصبح دولة يستفرد فيها حزب بحيازة السلاح والقرار، ليعمل ما يحلو له بدءا من عرقلة كل مسعى برلماني وشعبي لتشكيل حكومة وانتخاب رئيس من خلال ما سُمي بالثلث المعطل، ومرورا بتخزين أسلحته وصواريخه في مشهد سريالي غير مسبوق صار معه الحزب يملك من الأسلحة ما لا يملكه الجيش اللبناني، ووصولا إلى التخلص اغتيالا من خصومه وإعلان الحرب بدلا من الجيش والدولة اللبنانيين. 
لا ريب أن الحديث عن لبنان ذو صلة وثيقة بالحديث عن «حزب الله» وفائض قوته التي بها هدد دائما الشعب اللبناني، فأرعبه وشل مؤسساته عن اتخاذ أي إجراء إزاء تجاوزاته التي زعزعت الأمن والسلام الأهلي. بفائض القوة هذا أوقع لبنان في إشكالات وتعقيدات سياسية داخلية وخارجية لا تُحصى ولا تُعد، ولهذا فإن الحديث عن هذا الحزب الميليشياوي البنية حديث لا سقف له. صحيح أن مقارنته بغيره من الأحزاب والتنظيمات ذات المنبع العقدي الديني تفرض نفسها، ومع ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنته بالحديث عن حركة «حماس» في غزة؛ فـ«حزب الله» حزب ضمن أحزاب أخرى في الدولة اللبنانية المستقلة، وهناك حكومة وشعب يعيش على أرض ذات كيان واحد كامل غير مجزأ، وذات سيادة وطنية ومجتمع مدني وعلاقات دولية، وهناك دولة عضو في جامعة الدول العربية وفي الأمم المتحدة والتجمعات الدولية المختلفة، وكل هذه الأمور وغيرها غير متوافر في غزة، فهي أرض تحت الاحتلال، وهي جزء من سلطة فلسطينية في رام الله انقلبت عليها «حماس» لتؤسس مجالها الجغرافي الذي لم يعترف به أحد، ولهذا فإن الموقف من الحزب اللبناني الإيراني يختلف عن «حماس» الفلسطينية الإيرانية لجهة لعب الحزب دورا سلبيا في الأمن القومي العربي. 
«حزب الله»، الذي جذر في ذاكرة لبنان الشعبية إيران مقرونة بـ«المقاومة» لن يستطيع إبراء ذمته من مسؤوليته في توريط لبنان وإدخالها في حلف قسري مع إيران، في حين أن الدولة اللبنانية بدستورها ومؤسساتها وشعبها وأحزابها تختلف مع مثيلاتها في إيران، ولهذا فإن الصدام والمشكلات مقيمة في لبنان ولن يتحرر من هذه التبعية طالما بقي للحزب الإيراني القول الفصل في المؤسسات اللبنانية. هزيمة الحزب العسكرية وخلاص اللبنانيين منه أضحى، وإن كانت على يد إسرائيل، حيويا لسببين: أولا، لفك الرباط غير المقدس بين إيران ولبنان بصفتها دولة مستقلة لا شيء يجمعها بإيران لا من قريب ولا من بعيد رغم شيء من المشتركات الطائفية، وثانيا، لحاجة لبنان إلى البقاء بلدا عربيا فاعلا في محيطه العربي ومنفتحا على جهود أشقائه في إعادة الإعمار وإصلاح ما دمرته آلة حرب جهنمية حركتها إيران بذراعها في لبنان «حزب الله» بشعار مبني على وهم «وحدة الساحات». ولهذا فإن هزيمة «حزب الله» الذي أوقع لبنان في حروب متتالية ستسهل على الدولة اللبنانية والشعب اللبناني بأطيافه المختلفة التخلص من هيمنة الحزب على مؤسسات الدولة، وستتيح مسارا قديما جديدا للانتقال إلى الدولة المدنية الحديثة التي اشتغلت عليها كل الأحزاب اللبنانية الديمقراطية قبل الحرب الأهلية.
ما الذي يمكن أن يخسره لبنان إذا ما اندثر «حزب الله» أو بقي حزبا سياسيا؟ ما الذي سيخسره لبنان إذا ما كان هناك جيش قوي موحد يملك وحده السلاح وحق استعماله في الدفاع عن الوطن؟ هذان سؤالان مترابطان، وينبغي أن يكونا شاخصين في مشهد الحرب الدائرة بجسامة أكلافها المادية والبشرية، وأن يكونا موضوع تأمل خصوصا وسط الجدل الدائر في لبنان حول شرعية سلاح «حزب الله» وحاجة لبنان إلى مشهد سياسي جديد يُتخلص فيه من إرث الطائفية الذي حكم لوقت طويل طريقة اقتسام السلطة. في ظني، هذان سؤالان محوريان لأنهما يشكلان مادة نقاش حامية في لبنان؛ فالمقاومة لا تتشكل في أي مجتمع إلا عندما يحدث الاحتلال، ولكن في لبنان نجد تقويضا عبثيا لهذه الفكرة؛ إذ إن مقاومة «حزب الله» قد تشكلت استباقية فكانت قبل الاحتلال؛ لتكون وكيلا إيرانيا يبث سمومه في عموم البلدان العربية! 
ماذا بعد؟ هو سؤال الرجاء في خلاص لبنان قريبا، السؤال الذي يسكن أكثر العرب وأنا من جملتهم؛ فالثابت عندي أن لبنان أجمل وأقوى وأكثر فعالية في محيطه العربي من دون «حزب الله» المستقوي بسلاحه، والملطخة أياديه بدماء شباب بيئته أولا وخيرة أبناء لبنان من مفكرين وسياسيين وإعلاميين ثانيا.

*الايام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى