العميد الركن خالد حماده : الدستور في مواجهة مشهدية الدم والعبث بالإستقرار
لا بد من التوقف ملياً أمام السلوك الفوقي الذي يدأب حزب الله على استخدامه منذ العام 2006 مع كل ما يتصل بدور الدولة المتعارف عليه، دونيةٌ في التعامل مع المؤسسات الدستورية وتجاوز فاقع للأجهزة الأمنية على اختلافها واستباحة لحقوق المواطنين وأمنهم. مشهدان صاعقان بالأمس القريب قادهما حزب الله يؤكدان أن الحزب لا يزال بعيداً كل البعد عن القبول بالإنتماء للدولة، وإصرار على تعميق الهوة بينها وبين المواطنين.
مشهد جنوبي بدأ مع ساعات الصباح الأولى لإنتهاء المهلة المقررة لاستكمال الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بناه الحزب على الإستثمار في وجدان ومعاناة اللبنانيين النازحين واندفاعتهم للعودة الى قراهم محاولاً تصدّر المشهد الجنوبي فوق سيل من دماء اللبنانيين وأكوام من أشلائهم دفنت بين حطام المنازل، ومشهد استباحة ليلي عبّرت عنه مسيرات مسلّحة لحزب الله جابت مغدوشة وصيدا وصولاً إلى أحياء في العاصمة بيروت وضواحيها الشرقية والشمالية تخللتها كل أشكال الإستفزاز والعبث بإستقرار وأمن المواطنين.في المشهد الجنوبي، دُفع المواطنون لتجاوز تعليمات الجيش اللبناني ووضعوا في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية ليسقط منهم العشرات بين شهيد وجريح، فيما كان مسؤولون من الحزب يرددون ودون أن يرف لهم جفن خطباً تعبوية لا تعبّر سوى عن حالة إنفصال تام عن واقع مؤلم تسببت به حرب رعناء قادها الحزب على امتداد خمسة عشر شهراً وأوصلت اللبنانيين الى ما وصلوا إليه. أما في المشهد المديني، فقد وضع اللبنانيون الآمنون على شفير مواجهة أهلية في أحياء استقبل أهلها لمدة أشهر أو أسابيع بعضاً من المشاركين في المسيرات المسلّحة جراء نزوح فرضه العدوان الإسرائيلي. المفارقة الكبرى تكمن في قدرة حزب الله على ممارسة هذا القدر الكبير من التقية السياسية، ففيما دعى الحزب في بيان له جميع اللبنانيين إلى «الوقوف صفاً واحداً مع أهلهم في الجنوب، لنجدد معاً معاني التضامن الوطني ولنبني سيادة حقيقية عنوانها التحرير والإنتصار، ونشدّد أن المجتمع الدولي، وعلى رأسه الدول الراعية للإتفاق، مطالب اليوم بتحمل مسؤولياته أمام إنتهاكات العدو الإسرائيلي وجرائمه وإلزامه بالإنسحاب الكامل من أراضينا»، هاجمت زُمر مسلّحة رفعت بيارقه الصفراء أحياء من دعاهم للتضامن معه وأطلقت شعارات مذهبية مقززة واعتدت على أمنهم وممتلكاتهم.يتقاطع المشهدان في الجنوب وفي شوارع العاصمة بيروت ويعبّران عن رغبة لدى حزب الله في تقديم استعراض جديد للقوة بعد المتغيّرات التي شهدتها المنطقة والتي أخضعته لعملية ترشيق متسارعة وقسرية تخلى بموجبها عن دوره الإقليمي فيما يجد صعوبة بالغة في التأقلم معها في الداخل. في الجنوب رضخ الحزب لنتائج الميدان التي فرضتها حرب الإسناد، وما أقراره الإلتزام بالقرار 1701 ومحاولة حصر مفاعيل القرار بالتخلي عن بنيّته العسكرية في جنوب الليطاني ومثابرة الشيخ نعيم قاسم دائماً على تأكيد إلتزام الحزب بوقف إطلاق النار سوى إعلان واضح بالإنسحاب من المواجهة العسكرية مع إسرائيل والتخلي عن دوره كأحد مكوّنات الأمن الإقليمي. بهذا المعنى يصبح الهدف من إصرار الحزب على دفع الجنوبيين لدخول القرى المحتلة إمعاناً في تهميش دور الجيش اللبناني بما يمثله كرمز لدولة لا يقر الحزب حتى الآن بوجودها وسلطتها، وبهذا تصبح المغامرة بدماء المواطنين الذين يُدفعون للإستشهاد دون طائل محاولة لإنتاج معادلة قوامها دور الحزب في إلزام العدو بالإنسحاب حيث عجزت الدولة عن ذلك، هذا من جهة. وبالتزامن فقد وجّه الحزب أكثر من رسالة الى الداخل اللبناني عنوانها تهديد الإستقرار والأمن الوطني عشية الإستعراض الذي قدّمه في الجنوب من خلال المسيرات المسلّحة التي جابت شوارع العاصمة وبعض البلدات التي لها رمزية سياسية التي لا تتفق مع حزب الله. لم يأتِ تزامن المشهدين وليد الصدفة، ما يجمعهما هو رغبة واضحة في مخاطبة الرئيس المكلف نواف سلام وعبره رئيس الجمهورية اللذين يصران على تشكيل حكومة جديدة لا تخضع للإستئثار السياسي والمذهبي وللمعادلات والأعراف الخشبية التي اعتاد حزب الله وحلفاؤه إلزام من سبقوه بها. لقد درج الحزب على اعتبار الدولة مكوّناً هلامياً محكوماً بالتأقلم والتماهي معه، وقد تمكن من إخضاع القرارات والمراسيم التي صدرت عن المؤسسات الدستورية والأجهزة الأمنية والقضائية لرغبته على امتداد أربعة عقود. ما يريده حزب الله الآن من خلال دماء الجنوبيين هو إعادة الحياة لثلاثيته الشهيرة وما يريده من خلال تهديد الإستقرار هو إعطاء النموذج الذي يريد اعتماده لمواجهة التشكيلة الحكومية المرتقبة ومنها الدولة الناشئة.وفيما يصرّ حزب الله على مشهدية الدم وزعزعة الإستقرار لإعادة القبض على الدولة يبقى الرهان على تطبيق الدستور الذي أقسم رئيس الجمهورية على احترامه والذي رفعه الرئيس نواف سلام عالياً في خطاب التكليف.
*اللواء