رأي في الحدث

العميد الركن نزار عبد القادر: هل يتعلَّم السياسيون اللبنانيون من أحمد الشرع؟

بعد زيارة للمملكة العربية السعودية لبناء علاقات استراتيجية بين سوريا والمملكة، يتوجه أحمد الشرع الى انقرة في اول زيارة له لتركيا للبحث في اقامة علاقات وتفاهمات مع هذه القوة الاقليمية، التي تبحث عن حل دائم ونهائي لامنها القومي المتمثل باقامة دويلة كردية في الشمال السوري، تؤمن الملجأ والعمق الاستراتيجي لحزب العمال الكردستاني، والذي شكّل ازمة مزمنة للامن القومي التركي منذ عقود.وكان احمد الشرع قد استقبل في دمشق مجموعة من وزراء الخارجية الاوروبيين والعرب وذلك ضمن مسعاه الحثيث لإعادة بناء الشرعية الدولية للسلطة الجديدة التي حلت مكان حكم بشار الاسد بعد فراره الى موسكو. ويبدو جلياً بأن التصريحات المسؤولة، التي ادلى بها الشرع حول رؤيته لحل الازمة السورية واستعادة دولة القانون لسوريا قد اقنعت القوى الغربية وعواصم القرار العربية، بضرورة تعديل مواقفها من الشرع وتاريخه في الثورة السورية، وعلاقته بتنظيم القاعدة، والعمل على رفع كل عقوباتها وتحفظاتها، وتقديم مساعدات انسانية سخية لمساعدة الشعب السوري، مع الوعد بالمساعدة في ورشة الاعمار.نجح أحمد الشرع خلال اقل من شهرين من دخوله دمشق في تسويق خارطة طريق واعدة لاخراج سوريا من ازمتها، كما نجح في محاكاة الداخل والخارج بضرورة العمل على اعادة توحيد سوريا المفككة، مع حصر السلاح بيد الدولة وحدها، وبالتالي الغاء كل الميليشيات والمجموعات المسلحة، من خلال الدعوة لانضوائها تحت مظلة وزارة الدفاع الجديدة.يبدو ان السلطة المؤقتة في دمشق تملك الرؤية والبيئة لحل كل الازمات التي خلفها الحكم الديكتاتوري لآل الاسد في الثورات وما انتجته من دويلات متحاربة في عدة دول عربية من ليبيا واليمن والصومال وغيرها في اعطاء اي مؤشر لامكانية اقامة انظمة مستقرة، حتى لا نقول ديمقراطية تؤمن بحق شعوبها بالعيش بكرامة.ربما يتهمني البعض بالافراط في التفاؤل حول مستقبل الحكم في سوريا، وبمدى قدرة الشرع على امتلاك المبادرة والقوة لجمع القطع المتناثرة من الجغرافيا والديموغرافيا السورية، ولكني احكم على مجريات الامور في سوريا راهناً من خلال عاملين اساسيين: الاول، الحكمة والعقلانية التي طبعت تصريحات المسؤولين الجدد في دمشق سواءٌ في معالجة الشؤون الداخلية، وما اكثرها، او في قدرتهم على محاكاة الدول الشقيقة والاجنبية لدعم مسيرة عودة سوريا للسلام والاستقرار، وبالاضافة الى العمل على اجراء مصالحة وطنية، تؤدي الى اعادة الاعمار واستعادة اللاجئين او النازحين السوريين الى الخارج وخصوصاً من تركيا ولبنان والاردن.في رأينا وانطلاقاً من خارطة الطريق التي يتحدث عنها الشرع لاخراج سوريا من ازماتها وبالتالي اعادة بناء دولتها فإنه يبدو مصمماً على انهاء الازمتين الاساسيتين اللتين واجهتهما سوريا منذ بداية خمسينيات القرن الماضي. كانت الازمة الاولى اقتصادية واجتماعية، اتسمت بتبذير ثروات البلاد من خلال سياسات الادارات المستبدة والجائرة، والتي افقرت الناس.اما الازمة الثانية فكانت سياسية واجتماعية، بدأت مع الانقلابات العسكرية المتلاحقة، واستقرت على حكم البعث وآل الاسد لفترة تزيد عن نصف قرن، وادت الى حكم استبدادي خرّب حالة التوازن الاجتماعي والتوافق الوطني بين مكونات الشعب السوري، متنكراً لكل المبادئ والقواعد التي شكلت نقطة التوازن والارتقاء بين الشعب السوري وحكامه خلال عدة قرون.كان من الطبيعي ان تؤدي سياسات حزب البعث ومصالح الاسرة الحاكمة وممارسات اجهزتها الامنية والمخابراتية، الى تخريب كل التوازنات الاجتماعية، واقامة سلطة وفق النموذج السوفياتي. وهكذا كان من الطبيعي ان تسقط بعد حين على غرار تفكك الدولة السوفياتية، خلال هذه الفترة الطويلة كان من الطبيعي ان يؤدي الخلل القائم بين الحكم البعثي والشعب السوري الى وقوع قطيعة تؤدي الى الثورة منذ عام 2011، والى استمرارها الى حين سقوط النظام في الثامن من كانون اول 2023.ان الرؤية التي يتحدث عنها أحمد الشرع لبناء سوريا الجديدة ستؤدي حتماً في حال نجاحها الى استعادة الاجماع الوطني حول الدولة السورية، وستؤدي دون شك الى اعادة بناء الاقتصاد السوري، والى اقامة نظام سياسي يؤمِّن الحريات العامة والعدالة بين المواطنين وبين مختلف مكونات الشعب السوري.تحدث العديد من المراقبين اثناء الثورة السورية ان مستقبل سوريا سيسلك نفس الطريق التي سلكتها كل من الصومات ويوغوسلافيا، وبأنها ستنتهي من دولة مقسمة الى عدة دويلات، وفق خطوط الانقسام الديني والمذهبي والعرقي، وأن ما يعزز ويقوي هذه النزعة مصالح الدول المتدخلة في هذه الحرب لصالح نظام بشارالاسد كايران وروسيا او ضد النظام كتركيا، دون تجاهل عدد من اللاعبين الآخرين كالولايات المتحدة واسرائيل واقليم كردستان العراق. ويبدو الآن ان عدداً من فصائل الثورة المدعومة من تركيا قد نجحت في تغيير المعادلة العسكرية القائمة على الارض. وتوصلت الى احتلال المدن الكبرى، وصولاً الى دمشق وبالتالي النجاح في اسقاط حكم الاسد، واقامة سلطة واعدة بتأسيس دولة الحريات والقانون لجميع السوريين، مع هدف اساسي اعادة توحيد سوريا.يقول المؤرخ البريطاني – الاميركي برنارد لويس بأن هناك «بعض الفئات الشرق اوسطية ما زالت تؤمن بحلول التقسيم كمخرج من الازمات السياسية والاقتصادية التي تتخبط فيها»، ويرى لويس بأن الاحداث التي شهدها لبنان اثناء فترة الحرب الاهلية، كادت تؤدي الى حالة تقسيمية كان يمكن ان تتحول الى مثال يحتذى به. والمؤسف انه حتى اليوم، وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود من اتفاق الطائف فإننا ما زلنا نشهد على سعي بعض الجماعات للتقسيم، ويبدو من خلال الدعوات للتقسيم عبر الفدرالية او عبر الدعوات الجهادية بأن هذه الفئات ما زالت تبحث عن «حروب مقدسة» قد تؤدي الى حملات واحتلالات خارجية، تذكرنا بزمن الحملات الصليبية.كان من المفترض بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 ان تتداعي جميع المكونات الطائفية والاحزاب والحركات السياسية في لبنان الى التلاقي حول تنفيذ اتفاق الطائف، وخصوصاً ما يعود للعمل على الغاء الطائفية السياسية، والتي شكلت العلّة الاساسية لكل ازمات لبنان، بدءاً من الخروج على الميثاق الوطني، والذي كان يؤمِّن حالة من التوافق والاجماع حول صيغة لبنان كبلد لتعايش الاديان والاقليات، كما خرّبوا هيكل الدولة التي سعى الرئيس شهاب لتأسيسها.والمؤسف اننا اليوم وبعد كل التطورات الكبرى التي شهدها الاقليم وبعد نتائج الحرب المدمرة لنصرة غزة، فإن معظم القوى السياسية ما زالت تسعى لتعطيل مسيرة عهد الرئيس عون ورئيس حكومته نواف سلام. في رأينا بات من الضروري ان يتعلم السياسيون اللبنانيون من المسيرة التي يقودها أحمد الشرع.

*اللواء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى