د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد : هلك المتنطِّعون
يعرَّف التنطع بأنه التكلف والمغالاة في القول والفعل، والمتنطعون هم الخائضون في ما لا يعنيهم، وقيل هم: المبالغون في عبادتهم بحيث يخرجون عن قوانين الشريعة قولاً أو فعلاً، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون»، قالها ثلاثاً، والمعنى أنهم هلكوا في الدين كما هلكت الرهبانية ونحوهم.
ودافع التنطع حب التدين، ولكن عن غير بصيرة وهدى من الله تعالى، وهو في الحقيقة تزيُّدٌ على الإسلام الذي جاء سمحاً سهلاً، منسجماً مع الفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها، فهؤلاء أهلكوا أنفسهم فيما لا ينفعهم؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وعلى وفق ما شرعه، كما يشير لذلك قوله سبحانه: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}، والصالح هو الذي يكون على وفق السنة، والمرضي هو الخالص لله تعالى، وكما دل صراحة على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد»، أي هو مردود عليه، ومعنى ليس عليه أمرنا، أي شرعنا الذي جئنا به، فإنه شرع واف كاف، لا يحتاج إلى مزايدة، كما لا يقبل النقص، وقد ظهرت صور من هذا التنطع في عهده عليه الصلاة والسلام، كان الحامل عليه الرغبة في العبادة وإرادة الخير، فقد جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا، كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟! قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، فهو صلى الله عليه وسلم أتقى خلق الله لله، فلا يمكن أن يزيد عليه أحد في التعبد.Volume 0%
وقد كانت عبادته بحسب الطاقة والوسع، فلم تمنعه مما يحتاجه الجسد من الراحة، والمتعة؛ لأن ذلك هو مراد الله تعالى من عباده، كما قال سبحانه: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، ولو أراد منا غير ذلك لخلقنا كالملائكة الكرام الذين لم يخلقوا إلا للعبادة، فلا غرائز لهم، فلذلك هم لا يفترون من عبادة الله تعالى، بخلاف البشر المخلوقين بغرائز، ومكلفين بعمارة الأرض كما كلفوا بعمارة الدين، وهكذا وجه النبي عليه الصلاة والسلام عبدالله بن عمرو بن العاص الذي كان قد رغب في زيادة التعبد والتزهد فكان يصوم الدهر ويقوم الليل كله، فقال له عليه الصلاة والسلام: «إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين، ونفهت له النفس – أي أعيت وكلّت – لا صام من صام الدهر»، ولما جادل النبي عليه الصلاة والسلام في زيادة التعبد، وقال له: «فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك – أي ضيفك – عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً»، قال: فشددتُ، فشُدد علي، وفي رواية قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر»، قال: «فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم».
إن رغبة النفس في التنطع لا تعني التدين بحال، بل تعني هوى النفس، وذلك لا يُرضي نبينا عليه الصلاة والسلام القائل: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»، فعلى المسلم الحريص على دينه أن لا يزايد عليه، بل يحافظ على الفرائض كمحافظته على نفسه، ويحافظ على السنن ما استطاع بحيث لا يرهق نفسه فيؤديه إلى الانقطاع والملل، أو العجز عن المواصلة، فذلكم هو بالغ التدين المطلوب الذي أرشد إليه المصطفى عليه الصلاة والسلام لمن سأله عن أحب الأعمال إلى الله فقال: «أدومُها وإن قلّ»، وقال: «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون»، وصدق ابن العماد إذ يقول في معفواته:
وما التنطع إلا نزغةٌ وردت من مكر إبليس فاحذر سوءَ فتنته إن تستمع قوله فيما يوسوسه أو نصح رأيٍ له ترجعْ بخيبته القصد خيرٌ وخير الأمر أوسطه دع التعمق واحذر داء نكبته.
• التنطع هو التكلف والمغالاة في القول والفعل، والمتنطعون هم الخائضون في ما لا يعنيهم.