جعفـرعباس : الضبط والربط في بريطانيا
منذ أن غادرت السودان عقب عام الفيل بقليل طلبا للرزق في منطقة الخليج، شطبت وجبة الإفطار الصباحية من برنامجي اليومي، فقد نشأت في بيئة فيها الاستطعام جماعي، سواء في البيت او مكان العمل، ووجبات البيت الرئيسة في كل البلدان المسلمة تكاد تكون جماعية، وقد يشذ عن هذه القاعدة بعض أبناء وبنات جيل الشباب الذي يمارس الأكل ع الماشي، فيتعاطى السندويتشات وقوفا وع السريع، ولا أمانع في أكل سندويش، ولكن باعتباره «بدل فاقد»، أي لسد فجوة بين وجبتين او لعدم الشبع في وجبة ما، ثم ذهبت الى بريطانيا لأقيم فيها كدافع ضرائب رفقة عائلتي، ووجدت نفسي أجاري المجتمع البريطاني الى حد ما في عادات الأكل، وصار الإفطار الصباحي وجبة ضرورية في حياتي وخاصة في فصل الشتاء، وصرت أتوجه يوميا الى مكان العمل حاملا سندويتشات منزلية. في بداية الأمر كنت احس بالحرج وأنا أخرج السندويتش من حقيبتي اليدوية وأتناوله من دون أن أقول لمن هم حولي «تفضلوا»، لأنني مثل بني قومي أعتبر عدم دعوة من حولك إلى تناول الطعام بينما تتناوله انت «عيب».
استفاد جهازي الهضمي كثيرا من العيش في بريطانيا لأنني كنت أتناول الوجبات في البيت ومكان العمل بالثانية والدقيقة، وبالتالي لم يكن هناك مجال لإضراب جهازي الهضمي عن العمل وإصابتي بالإمساك، وفي بيئة العمل تبرمج نفسك على تناول الطعام في لحظة معينة هي لحظة «البريك» أي الاستراحة المحددة، وهي قصيرة جدا لوجبة الإفطار وساعة كاملة للغداء والعشاء (كثير من الانجليز يميلون الى الوجبة السائلة ويسمونها liquid lunch التي هي البيرة في الغداء)، ورغم عملي في تلفزيون بي بي سي، لم يحدث ان كلفوني بعمل بعد العاشرة مساء، وعليه كان بإمكاني دائما تناول عشاء منزلي كامل الدسم، واستفادت ساعتي البيولوجية أيضا من العمل والعيش في بريطانيا، حيث لا سبيل لسهر الليالي إلا للطلاب المقبلين على امتحانات حاسمة، وعليك أن تنام في ساعة معينة يوميا حتى يأخذ جسمك ما يستحقه من راحة، وحتى تستطيع ان تكون في موقع العمل في التوقيت المحدد، فلا مجال هناك لـ«شالتني نومة» كتبرير للتأخر في الوصول الى هناك.
وقد تشيلك نومة فعلا بين الحين والآخر، وفي غالب الأحوال لن تتعرض للاستجواب او الإذلال، فالبريطانيون يفترضون انك لا تكذب عندما تذهب الى عملك متأخرا بعد ان تشيلك نومة، ولكنك تفبرك حكاية مؤداها أنك فوجئت بجارتك العجوز تسقط أمام بيتها فتوقفت طويلا حتى أتى الإسعاف لنقلها الى المستشفى، والبريطانيون يفترضون أيضا ان الناس أمناء، ولهذا يتركون لك ولضميرك أمر ركوب قطار الأنفاق داخل لندن مزودا بالتذكرة الصحيحة، فلا يوجد جابي تذاكر (كمساري) على القطار، والراكب إما يشتري التذكرة من جهاز خاص وإما يشتريها من الموظف المكلف بالبيع في محطة ما، والراكب يحدد الوجهة، والموظف يحدد القيمة، وإذا أردت الغش فقد تقول انك ذاهب الى المحطة سين التي تكلف التذكرة اليها 6 جنيهات مثلا بينما انت ذاهب الى المحطة جيم التي يكلف الوصول اليها عشرة جنيهات، وبالتأكيد هناك بريطانيون وغير بريطانيين يكذبون ويتحايلون على نظام بيع وتحديد فئات التذاكر، ولكن بالتأكيد فإن كلفة تعيين كذا ألف كمساري ومفتش تذاكر أضعاف ما يضيع على شركات القطارات بسبب غش بعض الركاب، فالكمساري او المفتش يحتاج الى راتب شهري وعلاوة سنوية وإجازات سنوية وعارضة ومعاش تقاعدي، ويكون عضوا في نقابة و«نحن ما ناقصين نقابات وإضرابات ومطالب ووجع رأس» كما تقول الحكومة البريطانية في سرها، ولهذا إذا كانت فئة قليلة من ركاب القطارات تتحايل على نظام التذاكر «فليكن»، وفي فترات متباعدة يمر على الركاب مفتش تذاكر وإذا اكتشف ان احدهم يحمل التذكرة الخطأ أو لا يحمل أي تذكرة فإنه يفرض عليه غرامة رمزية فورية، ولا مجال للزج بالشرطة في أمر كهذا، واذا اتضح ان الشخص الذي يتعرض للغرامة لا يحمل معه المال الكافي يتم فقط إنزاله في أقرب محطة و… السلام.