أحمد الجارالله : لولا أبو الحسن الأصفهاني لكان بائع الفجل حوَّل طلاب جامعة سامراء “كلكجية” وأساتذة جهل
تتكشف يومياً فضائح الشهادات المزورة المشتراة من “متاجر بيع” أُطلق عليها جامعات في مختلف دول العالم، وباتت هذه الظاهرة مقلقة على المستوى العربي بعدما أُميط اللثام عن عشرات الآلاف ممن اشتروا شهاداتهم طلباً للترقي الوظيفي، حين اعتمدت بعض الدول نظام رفع الرواتب لمن حصل على إجازة جامعية وهو على رأس عمله، ما دفع بضعاف النفوس إلى السعي للحصول على تلك الرخصة لتحسين أوضاعهم المالية، لذلك وبطَرفة رمش بتنا نرى حرف الدال، مثلاً، يسبق عدداً كبيراً من الأسماء.
هذا المرض لم يقتصر على دولة بعينها، خصوصاً في السنوات العشرين المنصرمة، فقد اكتشف أخيراً أن نحو 27 ألف عراقي نالوا إجازات من أربع جامعات مشبوهة في لبنان، فيما هناك الآلاف من الكويتيين والإماراتيين والقطريين والسعوديين والجزائريين والمصريين والليبيين وغيرهم حصلوا على شهادات “مضروبة” من جامعات وهمية، عربية وأجنبية، أكثرها خارج العالم العربي، في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
أخطر ما في هذا الأمر أولئك الذين حصلوا على شهادات في العلوم البحتة، مثل الهندسة والطب، أو الحقوق، وقد استفادوا من هذا الأمر فشغلوا مناصب رفيعة في عدد من الوزارات والمؤسسات، بل لم يكن مستغرباً اكتشاف مجموعة من الأطباء في دول خليجية عدة لم يدرسوا الطب أصلاً، وبعضهم تسبب بموت عدد من المرضى.
وفي وقت لا تزال فيه الدول العربية، ومعظم العالم الثالث، تقدم الشهادة الجامعية على المهارات البديلة المكتسبة غيرت الولايات المتحدة الأميركية رؤيتها إلى التوظيف حين أصدر الرئيس دونالد ترامب في يونيو 2020 قراراً تنفيذياً غيّر معايير التوظيف الحكومي، كما كان له أثره الإيجابي الكبير على القطاع الخاص، وذلك حين أمر الحكومة الفيدرالية بالتركيز على المهارات بدل الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين الفيدراليين.
لم يكن هدف البيت الأبيض إلغاء شروط الحصول على الدرجة من أجل التوظيف، لكنه بدلاً من ذلك شجع على إعطاء الأولوية لمهارات الوظيفة، مما جعل الدرجة العلمية أو الشهادة أقل أهمية، ولقد بدأت شركات، مثل “IBM”، بالفعل في ذلك، فقد عينت العام الماضي 15 في المئة من قوتها العاملة، على أساس المهارة بدلاً من المستوى التعليمي.
أما في بريطانيا التي تضم 140 جامعة يفوق عمر بعضها أربعة قرون، فلا تعتمد على أصحاب الشهادات الجامعية في كثير من الوظائف المرموقة، أكان في المؤسسات الحكومية أو القطاع الخاص، أيضا هذا الأمر يسري على سويسرا وفرنسا والمانيا وكثير من الدول الأوروبية.
قبل سنوات أعلن صاحب شركة “تسلا” الأميركية أيالون ماسك البالغة ثروته حالياً نحو 281 مليار دولار حين سُئل في مقابلة حول الشهادات الجامعية التي يبحث عنها لضمها إلى سيرته الذاتية، أنه: “رغم أهمية الشهادات فهناك مؤشر ما للبحث عن قدرات الشخص التي قد تؤهله لتحقيق إنجازات غير عادية غير الشهادة، فهناك أسماء شهيرة في مجال التقنية مثل بيل غيتس ولاري إيلسون وستيف جوبز فشلوا في التخرج في الجامعات، لكنهم حققوا درجة من الإنجاز والبراعة في التفوق كانت عكس المعادلة التي يسير على نهجها الجميع.
لقد أثبتت بعض دراسات الوظائف أنه لا بد من البحث عن الموظفين الذين تشغر مناصب لا يستطيع غيرهم تقديم المجهود والإنجاز نفسهما فيها، إذ ليس الأمر بكثرة النوابغ والمواهب في الشركة، إنما في كيفية إدارتها، فإن كان لديك نابغة ولا تستفيد منه فهذا من الخسارة وليس من المكسب”.
كويتياً، مثلاً، فإن أصحاب الخبرات الذين لم ينالوا درجات جامعية قد نجحوا في إدارة شركات عدة، بل طوروها إلى ما هو أفضل بكثير مما كانت عليه، لذلك قُوبل قرار منع تجديد إقامات الوافدين ممن يبلغون الستين عاماً في الكويت برفض على المستويات كافة، بل نظر إليه على أنه يفتح باباً لتجارة الشهادات المزورة وتجارة الإقامات، فيما تفقد البلاد خبرات كثيرة تحتاج إليها.
لا شك أن شهوة الحصول على شهادة جامعية مزورة هي أوسع الأبواب إلى الفساد، لأنه كما قيل في المثل الكويتي “اللي في بطنه ريح ما يستريح”، ولذلك فصاحب الشهادة المزورة سيجمع حوله من هم على شاكلته كي يبقى مهيمناً، فيما الذين تعبوا في الدراسة وثابروا على كسب المزيد من العلم لن يكون لهم أي مكان بين هؤلاء، وسيحاربونهم بشدة، ومن هذه الزاوية يمكن قراءة بعض خلفيات “قرار الستين” أيضاً.
في القرن التاسع عشر كانت في مدينة سامراء العراقية جامعة كبيرة؛ على رأسها العلّامة الكبير أبو الحسن الأصفهاني، وكان من بين تلامذته، طالب فقير لكن كان طموحه أن يصبح أحد أعمدة العلم، وفي يوم قائظ؛ خرج هذا الطالب من الدرس جائعاً فقصد السوق، ولم يكن معه غير فلس ونصف الفلس؛ فيما ثمن الوجبة من الخبز والفجل فلسان!
اشترى رغيفاً بفلس، وذهب إلى صاحب محل الخضار ليشتري باقة فجل وقال للبائع: “معي نصف فلس فقط” فرد عليه البائع: “لكن الباقة بفلسٍ واحد” فرد الولد: “سوف أفيدك في مسألة علمية أو فقهية مقابل الفجل” أجابه البائع: “لو كان علمك ينفع لكسبت نصف فلس من أجل إكمال سعر الباقة؛اذهب وانقع علمك بالماﺀ واشربه حتى تشبع”.
بعد أيام افتقد الأستاذ الكبير تلميذه النجيب وحين سأل عنه الطلاب قالوا له:” لقد تخلى عن الجامعة والتحق بعملٍ يتغلب فيه على ظروفه القاسية”. ذهب الأصفهاني إلى بيت الطالب وسأله عن سبب تركه الجامعة فسرد له قصته، فأجابه أستاذه: “إن كنت تحتاج إلى نقود؛ إليك خاتمي هذا؛اذهب وبعه وأصلح به حالك”.
قبل الطالب هدية أستاذه واتجه إلى محل صاغة حيث باع الخاتم بألف دينار.
وذهب إلى أستاذه الذي سأله: “أين بعت الخاتم”؟ فقال الطالب: “في محل صاغة بالطبع”.
فسأله الأستاذ:” لماذا لم تذهب إلى بائع الفجل حيث قبلت أن يثمن علمك،عليك أن تعرف أنه لا يثمن الشيﺀ سوى من يعرف قيمته، وأنا أثمنك فلا تدع من لا يعرف قيمتك يثمنك، ارجع إلى درسك وعلمك”.
حين يخضع العلماء للجهلاء يصبح بائع الفجل هو من يقيّم الناس وعلومهم، وكم بائع فجل تسلم منصباً مرموقاً في العالم العربي ما جعل الأمة تغرق في بحر الفساد ويتسيد فيها الجهلاء المراكز المتقدمة ما أدى الى فشل غالبية دولها؟