محمد الساعد : أمريكا في مواجهة البشرية !
إلى ما قبل عام 2000، كانت أمريكا عمود التوازن في العالم، وسواء قُبل ذلك الدور أو لم يُقبل، إلا أنه كان مفيداً في كثير من القضايا، خاصة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتغول الشيوعية وتحولها إلى أداة هدم للشعوب والدول، ومع أن الإدارة الأمريكية في نهاية الأمر ترعى مصالحها، إلا أنه كان من الممكن الوصول معها إلى تفاهمات ولو جزئية تخفف من اندفاعها، خصوصا إذا أخدنا في عين الاعتبار دورها المركزي في إقليمنا العربي.
ولعلنا نستذكر الدور الأمريكي في العدوان الثلاثي على مصر 1956، ورفضها للعدوان وإجبارها الدول الثلاث (إسرائيل. فرنسا. إنجلترا) على الانسحاب من بور سعيد المصرية، ورفضها أي مساس بالسيادة المصرية وسيادتها على قناة السويس، ولولا ذلك الموقف لبقي أهم شريان مائي في العالم رهيناً بيد الإنجليز والفرنسيين وإسرائيل، وفي عام 1981 كان للأمريكان دور آخر في دعم الأفغان المسلمين ضد المحتل السوفييتي وتحرير بلادهم في نهاية الأمر، بالتأكيد كان ذلك خدمة لمصالحها، ولكن لم يكن مستبعدا اتفاقها مع موسكو على حساب الأفغان، ومع ذلك لم تفعلها.
وجهودها العسكرية والسياسية في البوسنة والهرسك، وقصفها بالطائرات للجيش الصربي، وإجبارهم على التوقف عن إبادة المسلمين البوسنيين، إضافة إلى مساهمتهم عبر مجلس الأمن في إخراج دولة البوسنة والهرسك المسلمة إلى المجتمع الولي.
بعد عام 2001، توحشت أمريكا وأصبحت رهينة غضبها ومصالحها الضيقة، بل وانحيازها التام مع الأيديولوجيا اليسارية المتطرفة، التي وصلت حد تسويغ وإجبار العالم على قبول قيم الشذوذ واعتبارها السائدة وتجريم ونبذ من يرفضها.
هذا التحول الدراماتيكي في السلوك السياسي والأمني والعسكري والاجتماعي الأمريكي، الذي كان إلى حد ما متوازنا وعقلانيا، دفع واشنطن للتخلي عن الحلفاء والإغارة على الأديان والقيم وفرض أفكارها اليسارية، وإطلاق العنان لتوحشها في خلافها مع أي دولة.
لذلك من المهم طرح سؤال يقول التالي: هل بقاء الولايات المتحدة الأمريكية بشكلها المتوحش الحالي فيه مصلحة للعالم، أم أن خروجها من المنظومة الدولية فيه حماية للبشرية والتاريخ ومستقبل الإنسانية؟
لم يستطع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب فرملة ذلك الغول الأمريكي الذي خرج عن السيطرة، بسبب هيمنة الدولة العميقة ومؤسسات الإعلام والفنون والشركات الكبرى على القرار الأمريكي، لقد أخفق ترمب نتيجة طريقته في معالجة الأمر، لكنه لم يخطئ في المبدأ، وهو يتمتع بدعم هائل من الشعب المحافظ الذي أقلقه انحراف بلاده نحو قيم هدامة لا تمت للقيم العائلية والإنسانية بصلة من أجل إرضاء حفنة من الشاذين، ومع أنهم أقلية إلا أنهم متنفذون وقادرون على الضغط عبر الإعلام والفن.
إن عدم ضبط أمريكا لسلوكها المتوحش المعادي للحكومات الحليفة وللمجتمعات المحافظة، سيخلق في نهاية الأمر موجة عداء كبرى لا يمكن لها أن تتحملها، فلن يقبل مليار مسلم -على سبيل المثال- تحول مجتمعاتهم وشوارع مدنهم إلى حواضن للشاذين والشاذات، ولن تقبل الحكومات تعامل واشنطن مع الميليشيات المعادية لها ودعمها بدلا من الحكومات الشرعية، وستبحث عن حلفاء آخرين يمكن الوثوق بهم.
إن تجربة فناء الاتحاد السوفيتي حاضرة في الأذهان، وانهيار الألمان النازيين لا يمكن نسيانه، وستدفع واشنطن ومصالحها وشعبها أفدح الأثمان كما دفعته إمبراطوريات سابقة تحولت إلى مجرد أسماء في التاريخ سادت ثم بادت، فاليوم يتمنى البعض زوال أمريكا، وغدا سيتمنى الكثير، وبعد الغد سينخرط الجميع في مقاومتها، وستندم لأنها زرعت نبتة الفناء داخلها، وهي من يرعاها ويغذي جشعها، وكأن ناراً تلتهم نفسها حتى تفنى.