أحمد الجارالله : الهبَّاشون يملأون العالم العربي وبوقاحة نادرة يرفعون شعار “هذا من فضل ربي”
تنطبق قصة قرأتها منذ أيام على واقعنا العربي، إلا ما ندر من الدول، والحكاية عن موظف قبض راتبه، واستقل حافلة مزدحمة ليصل إلى بيته، وكان فيها لص سرق نقود الرجل، وعندما طلب مساعد السائق ثمن التذكرة، بحث المسكين فلم يجد في جيبه المال، فاحمر وجهه خجلاً ولم يحر جواباً، فيما قال الجابي مستهزئاً: “عيب عليك، أن تحسب نفسك رجلاً محترماً وصالحاً، وتستقل الحافلة من دون أن تدفع أجرتها، فيما تزعم أن المال ضاع منك”.
هنا ضربت النخوة اللص، وقال: “أخي ثمن تذكرة الأستاذ على حسابي”، فابتسم الموظف وقال للص: “بارك الله فيك وكثّر من أمثالك يا سيدي”، فيما راح الركاب يمتدحون اللص ويثنون على أخلاقه وضميره الحي.
هذا النوع من اللصوص موجود في غالبية المؤسسات الرسمية العربية، وهم بازدياد، بل إن كثيراً منهم وصلوا إلى أعلى المراتب، ولايزالون أصحاب نخوة وعطايا وفضل، ويتلقون الشكر والتقدير، وينطبق على هؤلاء ما كتبه غسان كنفاني في إحدى رواياته “يسرقون رغيفك، ثم يعطونك منه كِسرة، ويأمرونك أن تشكرهم على كرمهم”.
هؤلاء لا يختلفون عن لص الباص، فكم واحد منهم يخرج على الناس متباهياً بإنجازات هي أساساً من صلب عمله الذي يقبض عليه راتبه، فيما لايزال عدد الفقراء يزداد بسبب من يسرقهم ويذلهم ويدفعهم إلى مزيد من العوز والجوع والحرمان.
ففي العراق كشفت آخر المعلومات الرسمية عن أن نحو 500 مليار دولار تم نهبها منذ 2003 لغاية 2020، وهربت إلى الخارج، بينما وصلت نسبة الفقراء إلى ما يزيد عن 40 في المئة، في بلد يعتبر من أغنى الدول بالاحتياطات النفطية وغيرها من الثروات الطبيعية، وقد كشف مسؤولون عراقيون عن أن ستة آلاف مشروع وهمي كلفت 178 مليار دولار تمت على أيدي الحكومات المتعاقبة طوال 17 عاماً.
في لبنان الوضع لا يختلف كثيراً، بل يمكن القول إن الفساد هو الدولة، لأن منظومة محاصصة طائفية ومذهبية وسياسية تتقاسم كل شيء، ونشر الكثير من التقارير في العالم عن أن نحو 380 مليار دولار نهبها المسؤولون اللبنانيون، فيما خرج أخيراً رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يطلب من الشعب: “أن يتحمل بعضه”، بينما تبلغ ثروة الرجل 3.3 مليار دولار غالبيتها من “الشطارة” في الاستحواذ على المال العام، ومن الغرائب أنه يفاوض نفسه من أجل تجديد عقد إحدى الخدمات التي يحتكرها.
ثمة بعض الدول العربية نهب فيها مسؤولون مليارات الدولارات، وحولوها إلى الخارج، ففي الكويت لا يعرف كم نهب من المال العام ولنا بأولئك الذين استغلوا الغزو العراقي للبلاد ونهبوا أموالاً من المحافظ السيادية التي كانوا يشرفون على إدارتها في الخارج، وقد عرفت يومها بـ”سرقة العصر”، وحتى يهربوا من المحاسبة تخلوا عن جنسيتهم الكويتية وحصلوا على جنسيات الدول التي يتمتعون فيها بالأموال التي نهبوها، فيما لا حسيب ولا رقيب، ولا ملاحقات لهم.
سرقة المال العام في العالم العربي عادة قديمة، ويعتبرها البعض “شطارة” وحنكة، وقلما تجد مسؤولاً لا “يهبش” أو لا يساعد على الفساد والإفساد، ومن الغرائب أن كل الذين “هبشوا” من المال العام يضعون على مكاتبهم يافطة مكتوب عليها الآية القرآنية” هذا من فضل ربي”، وتروى طرفة عن أحدهم أن إبليس احتج عليه وقال: “أنا جد غضبان من هذا الرجل، فقد ساعدته على النهب، ورغم ذلك لا يشكرني”، فهؤلاء وغيرهم يرشون الناطور ليسرقوا كل العنب، ولا يتركون للشعب إلا حبات معدودات، ثم يطلبون منه شكرهم على كرمهم.
مادام العرب يرَوْنَ أنَّ المال العام سائبٌ سيبقى الحرام سائداً، وسيتعلم المزيد من الموظفين السرقة، ولذا لن تقوم لهذه الدول قائمة إلا عندما يحاسب اللصوص ويساقون إلى السجون بدلاً من مدحهم على دفعهم من المال المسروق ثمن تذكرة الحافلة التي تستقل الضحايا.