رأي في الحدث

جعفـرعبـــاس : العالم يجري ونحن ثابتون

كتبت‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬عن‭ ‬السيدة‭ ‬اليمنية‭ ‬التي‭ ‬انتابتها‭ ‬نوبة‭ ‬هلع‭ ‬عندما‭ ‬رأت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬طائرة‭ ‬وهي‭ ‬تندفع‭ ‬في‭ ‬المدرج‭ ‬تأهبا‭ ‬للإقلاع‭ ‬لأنها‭ ‬حسبت‭ ‬انها‭ ‬ستصطدم‭ ‬بها‭ ‬فيهلك‭ ‬أقاربها‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬متنها،‭ ‬وعن‭ ‬الصومالي‭ ‬البسيط‭ ‬الذي‭ ‬تمدد‭ ‬فوق‭ ‬سير‭ ‬فحص‭ ‬الأمتعة‭ ‬في‭ ‬المطار‭ ‬بحسبان‭ ‬ذلك‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬إجراءات‭ ‬السفر،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬استنكار‭ ‬الضحك‭ ‬على‭ ‬زلات‭ ‬البسطاء‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وأعلن‭ ‬اليوم‭ ‬تعاطفي‭ ‬مع‭ ‬السيدة‭ ‬الألمانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬القاهرة‭ ‬بنية‭ ‬السفر‭ ‬الى‭ ‬بلادها،‭ ‬وعندما‭ ‬سمعت‭ ‬النداء‭ ‬بركوب‭ ‬الطائرة‭ ‬المتجهة‭ ‬الى‭ ‬وطنها،‭ ‬أصيبت‭ ‬بحالة‭ ‬من‭ ‬الهستيريا‭ ‬والصراخ‭ ‬وانتهى‭ ‬بها‭ ‬الأمر‭ ‬وقد‭ ‬تجردت‭ ‬من‭ ‬ملابسها‭ ‬تماما،‭ ‬وتمكنت‭ ‬سلطات‭ ‬أمن‭ ‬المطار‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬و«سترها‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬نقلها‭ ‬الى‭ ‬العيادة‭ ‬الطبية‭ ‬في‭ ‬المطار،‭ ‬حيث‭ ‬ثبت‭ ‬أنها‭ ‬بكامل‭ ‬قواها‭ ‬العقلية،‭ ‬ولكنها‭ ‬تصاب‭ ‬بالهلع‭ ‬والجزع‭ ‬عندما‭ ‬تهم‭ ‬بركوب‭ ‬الطائرة‭ ‬وهكذا‭ ‬تم‭ ‬حقنها‭ ‬بمادة‭ ‬مهدئة‭ ‬وتسليمها‭ ‬لسفارة‭ ‬بلادها‭ ‬لتتولى‭ ‬تسفيرها‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬للوصول‭ ‬الى‭ ‬المانيا‭ ‬بالبر‭ ‬او‭ ‬بالبحر‭ ‬فلربما‭ ‬وضعوها‭ ‬على‭ ‬نقالة‭ ‬طبية‭ ‬وأركبوها‭ ‬الطائرة‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تخدير‭ (‬بنج‭) ‬كامل‭. ‬وشخصيا‭ ‬ولولا‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬ركوب‭ ‬الطائرات‭ ‬لكنت‭ ‬ضمن‭ ‬أقلية‭ ‬عربية‭ ‬استخدمت‭ ‬طائرة‭ ‬الكونكورد‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الى‭ ‬آخر،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬اقنعت‭ ‬نفسي‭ ‬بأنه‭ ‬طالما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬الطائرة‭ ‬للسفر‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬اركب‭ ‬طائرة‭ ‬تختزل‭ ‬الوقت‭ ‬وتوصلني‭ ‬الى‭ ‬وجهتي‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬و«أَخْلَصْ‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬الكونكورد‭ ‬دخلت‭ ‬الخدمة‭ ‬ثم‭ ‬تقاعدت‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2003،‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬أركبها‭ ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬ان‭ ‬عدد‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬استخدموها‭ ‬يتجاوز‭ ‬الألف‭. ‬ركِّز‭ ‬معي‭: ‬ظهرت‭ ‬طائرة‭ ‬تتجاوز‭ ‬سرعتها‭ ‬سرعة‭ ‬الصوت‭ ‬وطافت‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬البلدان،‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تمر‭ ‬بأجواء‭ ‬أو‭ ‬تهبط‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬تجارية‭!! ‬فهمت‭ ‬شيئا؟‭ ‬يعني‭ ‬الزمن‭ ‬جرى‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬ونحن‭ ‬عاجزون‭ ‬عن‭ ‬مواكبته‭ ‬واللحاق‭ ‬به‭!!‬

قبل‭ ‬أعوام‭ ‬زرت‭ ‬صديقا‭ ‬لي‭ ‬سمعت‭ ‬بحلول‭ ‬شقيقه‭ ‬ضيفا‭ ‬عليه،‭ ‬وكان‭ ‬الرجل‭ ‬الزائر‭ ‬فوق‭ ‬الاربعين‭ ‬بقليل،‭ ‬وبدا‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬شحوب‭ ‬وجهه‭ ‬ان‭ ‬حالته‭ ‬الصحية‭ ‬سيئة‭ ‬للغاية،‭ ‬فسألت‭ ‬صديقي‭ ‬عن‭ ‬العلة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬شقيقه‭ ‬فقال‭: ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬شيء،‭ ‬وصحته‭ ‬حديد،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ركب‭ ‬الطائرة‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وقضى‭ ‬الرحلة‭ ‬الجوية‭ ‬التي‭ ‬استغرقت‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬ونصف‭ ‬الساعة‭ ‬وهو‭ ‬يبكي‭ ‬عياله‭ ‬الذين‭ ‬سيصبحون‭ ‬بلا‭ ‬عائل،‭ ‬ويوصي‭ ‬الركاب‭ ‬بهم‭ ‬خيرا،‭ ‬حتى‭ ‬انتقلت‭ ‬عدوى‭ ‬الخوف‭ ‬الى‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬حوله‭ ‬في‭ ‬الطائرة،‭ ‬لأنهم‭ ‬حسبوا‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بأن‭ ‬الطائرة‭ ‬مصابة‭ ‬بخلل‭ ‬ما،‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬الغضب‭ ‬بأحد‭ ‬الركاب‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬صاح‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬شقيق‭ ‬صديقي‭: ‬لماذا‭ ‬توصينا‭ ‬على‭ ‬عيالك؟‭ ‬هل‭ ‬ستكون‭ ‬المتوفى‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬سقوط‭ ‬الطائرة؟‭ ‬وسحب‭ ‬طاقم‭ ‬الضيافة‭ ‬في‭ ‬الطائرة‭ ‬الرجل‭ ‬الى‭ ‬قمرة‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬تهدئته‭ ‬ومنع‭ ‬حالة‭ ‬الهلع‭ ‬التي‭ ‬تسبب‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬ركاب‭ ‬الدرجة‭ ‬السياحية‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬عددهم‭ ‬يناهز‭ ‬المائتين‭.‬

هل‭ ‬تضحك‭ ‬ايها‭ ‬القارئ‭ ‬‮«‬المتحضر‮»‬‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يركب‭ ‬الطائرة‭ ‬حتى‭ ‬تجاوز‭ ‬الاربعين؟‭ ‬اضحك‭ ‬حتى‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬الغد‭ ‬لأن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬85‭%‬‭ ‬من‭ ‬ابناء‭ ‬الحظيرة‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬يركبوا‭ ‬طائرة‭ ‬طوال‭ ‬حياتهم،‭ ‬ونحو‭ ‬60‭%‬‭ ‬من‭ ‬ابناء‭ ‬تلك‭ ‬الزريبة‭ ‬لا‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬الحنفيات‭ ‬والمياه‭ ‬الجارية‭ ‬المصفاة،‭ ‬ومثلهم‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬يطبخون‭ ‬طعامهم‭ ‬‮«‬على‭ ‬الحطب‮»‬،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬قررت‭ ‬في‭ ‬اول‭ ‬السبعينات‭ ‬ان‭ ‬أُدخل‭ ‬والدتي‭ ‬عالم‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬فاشتريت‭ ‬لها‭ ‬جهاز‭ ‬طبخ‭ ‬يعمل‭ ‬بالغاز،‭ ‬وشرعت‭ ‬أشرح‭ ‬لها‭ ‬كيفية‭ ‬استخدامه‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تمهلني،‭ ‬شتمتني‭ ‬ووصفتني‭ ‬بالعقوق‭ ‬واتهمتني‭ ‬بأنني‭ ‬أخطط‭ ‬لقلتها‭ ‬‮«‬عشان‭ ‬الورث‮»‬،‭.. ‬حاولت‭ ‬ان‭ ‬اقنعها‭ ‬بمزايا‭ ‬طبّاخ‭ ‬الغاز‭ ‬وذكرتها‭ ‬بأنها‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الورث‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬تلبسني‭ ‬تلك‭ ‬التهمة‭ ‬الظالمة،‭ ‬ولكن‭ ‬بلا‭ ‬طائل،‭ ‬فأخذت‭ ‬الطباخ‭ ‬وأهديته‭ ‬لإحدى‭ ‬شقيقاتي،‭ ‬ولم‭ ‬تقتنع‭ ‬امي‭ ‬بجدواه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬عقد‭ ‬الثمانينات،‭ ‬ثم‭ ‬سمعت‭ ‬بأنني‭ ‬اعتزم‭ ‬زيارتها‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬اسبوعين،‭ ‬فطلبت‭ ‬مني‭ ‬ان‭ ‬احضر‭ ‬لها‭ ‬فرن‭ ‬مايكروويف‭!! ‬فقلت‭ ‬لها‭: ‬ينصر‭ ‬دينك‭ ‬يا‭ ‬حاجة‭ ‬آمنة‭.. ‬كده‭ ‬تكوني‭ ‬رفعت‭ ‬راسنا،‭ ‬وتثبتي‭ ‬لأهل‭ ‬الخرطوم‭ ‬اننا‭ ‬نحن‭ ‬النوبة‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬مجاراة‭ ‬العصر‭! ‬كم‭ ‬أنا‭ ‬سعيد‭ ‬بأن‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬صارت‭ ‬قبل‭ ‬رحيلها‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬تقبل‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬بينما‭ ‬نحو‭ ‬90‭%‬‭ ‬من‭ ‬ابناء‭ ‬وطننا‭ ‬الكبير،‭ ‬يستعيذون‭ ‬من‭ ‬الشيطان‭ ‬اذا‭ ‬سمعوا‭ ‬كلمة‭ ‬مايكروويف‭ ‬لأنهم‭ ‬يحسبونه‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الميكروبات‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى